“لا كيف ولا معنى” عن الإمام أحمد ..تحقيق ودراسة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
شاع حبُّ الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- بين أهل السنة والجماعة قاطبة، وخاصة أهل العلم منهم؛ حتى صار حبه علامة على الانتساب إلى أهل السنة والجماعة؛ يقول قتيبة بن سعيد: “وإذا رأيت رجلًا يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة”([1]).
كما أصبح الانتساب إلى الإمام أحمد علامة على التمسك بالسنة ومنهج السلف؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): “ولما كان أحمد قد صار هو إمام السنة، كان من جاء بعده ممن ينتسب إلى السنة ينتحله إمامًا، كما ذكر ذلك الأشعري في كتاب الإبانة وغيره، فقال: إن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم([2]). وذكر جملا من المقالات”([3]).
لذا فقد اهتم علماء أهل السنة والجماعة وغيرهم بالنظر في روايات الإمام أحمد، والاستفادة منها، ولكل وجهة هو موليها، والمسلك الحق والطريق القويم هو الأخذ بكلام الإمام كله، وحمل المتشابه من كلامه على الصريح والمحكم.
وبعض المنتسبين إلى مذهب الأشاعرة المفوضة وقف على روايات منقولة عن الإمام أحمد، وظنها أنها تخدم مذهبه وتقويه([4])، فادَّعَوا أن “التفويض المروي عن الإمام أحمد يختلف عن التفويض المحدث الموجود عند السلفية المعاصرة، فتفويض الإمام أحمد لبعض النصوص هو إثبات صحتها، ثم تسليمها من غير التحدث في معانيها”([5]).
وقد جمعوا في هذا المسلك جملة من الأخطاء العلمية والمنهجية، منها:
– أنهم أخذوا بالمتشابه من كلام الإمام أحمد، وجعلوه قاضيًا على المحكم والصريح من كلامه، ولا يخفى ضعف هذا المسلك، وبُعده عن الإنصاف والصواب.
– أنهم لم يتتبعوا الروايات عن الإمام أحمد في المسألة، ومعلوم أن الباب إذا لم تجمع طرقه لم تتبين علله، كما هو مقرر عند المحدثين والأصوليين.
وفي هذه الورقة العلمية نعرض لرواية عن الإمام أحمد، كثر حولها القيل والقال، واستعملها المخالفون لمنهج أهل السنة والجماعة للتشنيع والادعاء عليهم بالمخالفة لمذهب المفوضة -الذين يفوضون معاني الصفات-، والذي يدعون فيه أنه الحق، وقد استوفينا الرد عليهم([6]).
هذه الرواية هي: ما نقل عن الإمام أحمد من قوله في أحاديث الصفات: “نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى”، وفيما يلي دراستها -بما يناسب المقام- من جهتي الرواية والدراية، وبيان مدى توافقها مع كلام الإمام أحمد، وعرضها على مذهب أهل السنة والجماعة.
ألفاظ الرواية:
جاءت هذه الرواية من طريق حنبل بن إسحاق عن الإمام أحمد، واختلفت ألفاظها اختلافًا يستوجب الوقوف والتأمل، فتارة جاءت مجملة تحتاج إلى بيان، وتارة جاءت مبينة وشارحة للرواية المجملة:
الرواية المجملة:
- قال أبو بكر الخلال (ت 311هـ): وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلًا حدثهم قال: “سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى: أن الله -تبارك وتعالى- ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا([7])، وأن الله يُرى([8])، وأن الله يضع قدمه([9])، وما أشبهه.
فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى، ولا نرد منها شيئًا، ونعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حقٌّ إذا كانت بأسانيد صحاح([10])، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، بلا حد ولا غاية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ولا يبلغ الواصفون صفته، وصفاته منه، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت”([11]).
الرواية المفسرة والشارحة:
قد جاءت الرواية عن حنبل مفسرة ومبينة لتلك الرواية المجملة، وهي عند أصحاب الإمام أحمد على وجهين، تارة مع التنصيص على نسبتها إلى حنبل، وتارة مع عدم التنصيص على نسبتها إليه:
- الرواية مع التنصيص على نسبتها إلى حنبل: قال حنبل بن إسحاق: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا»، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها، ولا نرد شيئًا منها إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على رسول الله قوله، ونعلم أن ما جاء به الرسول حقٌّ.
حتى قلت لأبي عبد الله: «ينزل الله إلى سماء الدنيا»، قال: قلت: نزوله بعلمه بماذا؟! فقال لي: اسكت عن هذا، ما لك ولهذا؟! أمض الحديث على ما روي، بلا كيف ولا حد، إنما جاءت به الآثار، وبما جاء به الكتاب، قال الله عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علمًا، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب([12]).
- وعن أبي علي حنبل بن إسحاق قال: قلت لأبي عبد الله: «ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا»، قال: نعم، قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟! قال: فقال لي: اسكت عن هذا، وغضب غضبًا شديدًا، وقال: ما لك ولهذا؟! أمض الحديث كما روي بلا كيف([13]).
وبالنظر إلى هذه الرواية يتضح ما يلي:
أولًا: إن جواب الإمام أحمد عن أصل الصفة كان بقوله: “نؤمن بها ونصدق بها”، ولم يذكر فيه “بلا كيف ولا معنى”، وقال في آخره: “ونعلم أن ما جاء به الرسول حق”، وفي هذا أبلغ الرد على المفوضة، ويؤيده ما في الرواية التي أسندها ابن بطة عن حنبل: “أمض الحديث كما روي بلا كيف”؛ فاقتصر على نفي علم الكيفية، ولم يذكر المعنى.
ثانيًا: إن قول الإمام أحمد: “بلا كيف ولا حد” جاء جوابًا لحنبل لما سأله عن الكيفية، فأجابه بقوله: “بلا كيف ولا حد”، فأثبت الصفة على ظاهرها، ولم يتكلم عن الكيفية؛ وقال: ينزل كيف شاء بعلمه وقدرته وعظمته… إلخ.
- الرواية مع عدم التنصيص على نسبتها إلى حنبل: قال أبو عبد الله: “ونحن نؤمن بالأحاديث في هذا ونقرها، ونمرها كما جاءت بلا كيف، ولا معنى إلا على ما وصف به نفسه تعالى“([14]).
زاد ابن قدامة (ت 620هـ): “وهو كما وصف نفسه سميع بصير، بلا حد ولا تقدير…”([15]).
وقد أفادت تلك الرواية أن الإمام أحمد يفوض كيفية الصفات إلى الله تعالى، وأما المعنى فهو يثبته على ما وصف الله تعالى به نفسه، على الوجه اللائق به سبحانه.
دراسة الرواية من جهة السند:
هذه الرواية انفرد بها حنبل بن إسحاق عن الإمام أحمد، وقد تكلم علماء المذهب عن تفرداته، فبعضهم يثبتها، وبعضهم ينكرها ويضعفها:
- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “حنبل له مفاريد ينفرد بها من الروايات في الفقه، والجماهير يروون خلافه، وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنبل التي خالفه فيها الجمهور هل تثبت روايته؟ على طريقين: فالخلال وصاحبه قد ينكرانها، ويثبتها غيرهما كابن حامد”([16]).
وإذا مشينا على طريقة الخلال وصاحبه فإن هذه الرواية تكون مردودة غير مقبولة.
- ويقول ابن القيم (ت 751هـ) -في أثناء كلامه عن رواية أخرى تفرد بها حنبل([17])-: “إنها غلط عليه [يعني: على الإمام أحمد]؛ فإن حنبلًا تفرد به عنه، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، وإذا تفرد بما خالف المشهور عنه، فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية، والتحقيق أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه، هذا إذا كان ذلك من مسائل الفروع، فكيف في هذه المسألة؟!”([18]).
- ويقول الحافظ ابن رجب (ت 795هـ) في أثناء كلامه على نفس الرواية التي تكلم عنها ابن القيم: “وهذا مما تفرد به حنبل عنه، فمن أصحابنا من قال: وهم حنبل فيما روى، وهو خلاف مذهبه [يعني: مذهب الإمام أحمد] المعروف المتواتر عنه، وكان أبو بكر الخلال وصاحبه لا يثبتان ما تفرد به حنبل عن أحمد رواية”([19]).
دراسة الرواية من جهة المتن والمعنى:
على التسليم بصحة هذه الرواية -وهو الظاهر من فعل أصحاب الإمام أحمد الذين أثبتوها- فإن دراسة تلك الرواية بشقيها -المجمل والمبين- يكون من خلال عدة نقاط:
أولها: شرح الرواية عند أصحاب الإمام أحمد:
قد شرح علماء المذهب الحنبلي هذه الرواية، وبينوا أن المراد منها هو أننا لا نحرف آيات الصفات وأحاديث الصفات بالتأويل الفاسد، وفيما يلي أشهر أقوالهم:
- يقول أبو يعلى (ت 458هـ): “وقال -في رواية حنبل-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يضع قدمه»([20]): نؤمن به ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم“.
قال أبو يعلى: “فقد نص على الأخذ بظاهر ذلك؛ لأنه ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه؛ لأنا لا نثبت قدمًا جارحة، ولا أبعاضًا، بل نثبت ذلك قدمًا صفة، كما أثبتنا يدين ووجهًا وسمعًا وبصرًا وذاتًا، وجميع ذلك صفات، وكذلك القدم والرجل، ولأنَّا لا نصفه بالانتقال والمماسة لجهنم، بل نطلق ذلك كما أطلقنا الاستواء على العرش، والنظر إليه في الآخرة”([21]).
- ويقول أبو يعلى أيضًا: “وقال -في رواية حنبل- في الأحاديث التي تروى: «إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا» و«الله يُرى» وأنه «يضع قدمه»([22]) وما أشبه بذلك: نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئًا منها، ونعلم أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حقٌّ، إذا كانت بأسانيد صحاح”.
وقال أبو يعلى: “وقال -في رواية حنبل-: يضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول، وقال: المشبهة تقول: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه”.
قال أبو يعلى -عقب ذلك-: “فقد نص أحمد على القول بظاهر الأخبار من غير تشبيه ولا تأويل“([23]).
- ويقول ابن تيمية: “)لا كيف ولا معنى) أي: لا نكيفها، ولا نحرفها بالتأويل، فنقول: معناها كذا”([24]).
وثانيها: روايات أخرى عن حنبل فيها إثبات معاني الصفات:
جاءت روايات أخرى عن حنبل بن إسحاق عن الإمام أحمد، وفيها تصريح الإمام أحمد بإثبات المعاني لصفات الله تعالى، على الوجه اللائق به سبحانه؛ مما يؤكد صحة التفسير والشرح الذي قام به علماء المذهب لرواية حنبل -محل البحث- ومنها:
الرواية الأولى: يقول ابن بطة (ت 387هـ): “قال حنبل: سمعت أبا عبد الله، يقول: نعبد الله بصفاته كما وصف به نفسه، قد أجمل الصفة لنفسه، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه تعالى ذكره صفة من صفاته بشناعة شنعت، ولا نزيل ما وصف به نفسه من كلام ونزول، وخُلوه بعبده يوم القيامة، ووضع كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يُرى في الآخرة، والتحديد في هذا بدعة، والتسليم لله بأمره، ولم يزل الله متكلمًا، عالمـًا، غفورًا، عالم الغيب والشهادة، عالم الغيوب، فهذه صفات الله وصف بها نفسه، لا تدفع، ولا ترد، وقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} آية الكرسي [البقرة: 255]، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]، هذه صفات الله وأسماؤه، وهو على العرش بلا حد، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، كيف شاء؛ المشيئة إليه والاستطاعة. و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير.
قلت لأبي عبد الله: والمشبهة ما يقولون؟ قال: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه، وهذا كلام سوء، والكلام في هذا لا أحبه، وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة، نعوذ بالله من الزلل، والارتياب والشك، إنه على كل شيء قدير”([25]).
يقول أبو يعلى -شارحًا لبعض ما جاء في تلك الرواية-: “وقد نص أحمد على الأخذ بظاهر الحديث في رواية حنبل، فقال: لا نزيل عنه صفة من صفات ذاته بشناعة شنعت، ووصف وصف به نفسه، من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة، ووضعه كنفه عليه”([26]).
- الرواية الثانية: يقول أبو القاسم الأصبهاني -المشهور بقوام السنة- (ت 535هـ): “وقال أحمد -في رواية حنبل-: يضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم”.
قال قوام السنة: “وقد نص أحمد على القول بظاهر الأخبار من غير تشبيه ولا تأويل“([27]).
- الرواية الثالثة: يقول ابن تيمية: “وقال حنبل -في موضع آخر- قال [يعني: الإمام أحمد]: ليس كمثله شيء في ذاته، كما وصف به نفسه، فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، فعبد الله يصف الله غير محدود ولا معلوم إلا بما وصف به نفسه، قال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى 11]”([28]).
- الرواية الرابعة: يقول ابن تيمية أيضًا: “وقال حنبل -في موضع آخر-: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفاته منه له، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، ولا تبلغه صفة الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه”([29]).
ثالثها: كلام الإمام أحمد صريح في إثبات المعاني لصفات الله تعالى:
قد وقع بعض المنتسبين إلى السنة في خطأ جسيم، وهو اعتقادهم أن لفظ “التأويل” الوارد في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] يشمل قسمي النفي والإثبات في صفات الله تعالى؛ مما ترتب عليه تمسكهم بكل ما يجدونه في كلام الأئمة في المتشابه، ومنه رواية حنبل عن الإمام أحمد: “بلا كيف ولا معنى”، ظنًّا منهم أن مراد الإمام أحمد بذلك هو عدم معرفة معناها.
وهذا الفهم مردود؛ فقد تواتر عن الإمام أحمد النقل صريحًا بخلاف ما فهموه، كما بينت الروايات عنه أنه إنما ينكر التأويلات المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، والتي يتأولون فيها القرآن الكريم على غير تأويله، وهذا تصنيف الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية أكبر شاهد على هذا.
والمعنى الصحيح لما اشتبه عليهم من قول الإمام أحمد: “بلا كيف ولا معنى” الرد على طائفتين:
- أولًا: الرد على من يذهبون إلى إثبات كيفية لصفات الله تعالى؛ بدعوى أنهم علموا كيفية ما أخبر الله تعالى به من صفات، وقد رد عليهم الإمام بقوله: “بلا كيف”.
- ثانيًا: الرد على من تأول القرآن الكريم على غير مراد الله تعالى ورسوله، وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، فيقولون: معناه كذا وكذا، وقد نفى الإمام أحمد قول هؤلاء بقوله: “ولا معنى”، فللَّه دره من إمام موفق.
وقد لخص شيخ الإسلام ابن تيمية هذا كله بقوله: “والمنتسبون إلى السنة من الحنابلة وغيرهم الذين جعلوا لفظ التأويل يعم القسمين [يعني: النفي والإثبات في صفات الله تعالى] يتمسكون بما يجدونه في كلام الأئمة في المتشابه؛ مثل قول أحمد -في رواية حنبل-: (ولا كيف ولا معنى)، ظنُّوا أن مراده أنَّا لا نعرف معناها.
وكلام أحمد صريح بخلاف هذا في غير موضع، وقد بين أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية ونحوهم الذين يتأولون القرآن على غير تأويله، وصنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما أنكرته من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، فأنكر عليهم تأويل القرآن على غير مراد الله ورسوله، وهم إذا تأولوه يقولون: معنى هذه الآية كذا، والمكيفون يثبتون كيفية؛ يقولون: إنهم علموا كيفية ما أخبر به من صفات الرب.
فنفى أحمد قول هؤلاء وقول هؤلاء؛ قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية، وقول المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون: معناه كذا وكذا”([30]).
وإنعامًا في البيان أسوق طائفة من الروايات عن الإمام أحمد تثبت مخالفته لما عليه المفوضة، وأنه يرى أن صفات الله تعالى تحمل على ظاهرها المراد، وأن لها معاني لائقةً به سبحانه:
- يقول أبو بكر الخلال (ت 311هـ): قال [يعني: الإمام أحمد]: وفي صفات الله تعالى ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالسمع، مثل قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فبان بإخباره عن نفسه ما اعتقدته العقول فيه، وأن قولنا: سميع بصير صفة من لا يشتبه عليه شيء، كما قال في كتابه الكريم، ولا تكون رؤية إلا ببصر، يعني: من المبصرات بغير صفة من لا يغيب عليه ولا عنه شيء، وليس ذلك بمعنى العلم كما يقوله المخالفون؛ ألا ترى إلى قوله تعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]؟!”([31]).
- ويقول أيضًا: “قال [يعني: الإمام أحمد]: وقوله تعالى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] يدل على أن معنى السَّمِيع غير معنى الْعَلِيم، وقال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]، وقال عليه السلام: (سبحان من وسع سمعه الأصوات)([32])، ومعنى ذلك من قوله: أنه لو جاز أن يسمع بغير سمع جاز أن يعلم بغير علم، وذلك محال؛ فهو عالم بعلم، سميع بسمع”([33]).
- ويقول أيضًا: وكان [يعني الإمام أحمد] يقول في معنى الاستواء: هو العلو والارتفاع، ولم يزل الله تعالى عاليًا رفيعًا قبل أن يخلق عرشه، فهو فوق كل شيء، والعالي على كل شيء، وإنما خص الله العرش لمعنى فيه مخالف لسائر الأشياء، والعرش أفضل الأشياء وأرفعها، فامتدح الله نفسه بأنه {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، أي: عليه علا، ولا يجوز أن يقال: استوى بمماسة ولا بملاقاة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، والله تعالى لم يلحقه تغير ولا تبدل، ولا تلحقه الحدود قبل خلق العرش، ولا بعد خلق العرش”([34]).
وقد صرَّح الإمام أحمد بأنه يعلم تفسير صفات الله تعالى ومعناها، دون كيفيتها؛ وإليك بعض نقول علماء المذهب الحنبلي عن الإمام أحمد في هذا:
- يقول أبو بكر الخلال: “ومذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- أن لله عز وجل وجهًا، لا كالصور المصورة والأعيان المخططة، بل وجهه وصفه بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ومن غيَّر معناه فقد ألحد عنه، وذلك عنده وجه في الحقيقة دون المجاز، ووجه الله باقٍ لا يبلى، وصفة له لا تفنى، ومن ادعى أن وجهه نفسه فقد ألحد، ومن غيَّر معناه فقد كفر، وليس معنى وجه معنى جسد عنده، ولا صورة، ولا تخطيط، ومن قال ذلك فقد ابتدع”([35]).
- ويقول أبو يعلى: “فقد روي عن أحمد وغيره ما يدل على التفسير، فقال أحمد -في رواية عبدوس بن مالك العطار-: “ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ولم يؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفي ذلك، وأحكم له، فعليه الإيمان والتسليم”.
قال أبو يعلى: “قالوا: فقول أحمد: ومن لم يعرف تفسير الحديث، ويبلغه عقله، فقد كفي ذلك وأحكم له، معناه: قد كفاه ذلك أهل العلم، وأحكموا له علمه، فدلَّ على التفسير“([36]).
- ويقول ابن تيمية: “قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن علمنا تفسيره ومعناه“([37]).
- ويقول ابن رجب: والفرقة الثالثة [من المختلفين في معنى النزول] أطلقت النزول كما ورد، ولم تتعد ما ورد، ونفت الكيفية عنه، وعلموا أن نزول الله تعالى ليس كنزول المخلوق، وهذا قول أئمة السلف: حماد بن زيد، وأحمد…”([38]).
رابعها: نقل الإجماع على إثبات صفات الله تعالى وإجراؤها على ظاهرها:
قد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على إثبات صفات الله تعالى، وأنها تحمل على ظاهرها، مع تفويض الكيفية وقطع العلائق عن إدراكها، ولا شك أن الإمام أحمد داخل في هذا الإجماع:
- يقول أبو سليمان الخطابي (ت 388هـ) في كتاب “الغنية عن الكلام وأهله”: “فأما ما سألت عنه من الكلام في الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنن الصحيحة، فإن مذهب السلف إثباتها، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها”([39]).
- ويقول ابن عبد البر (ت 463هـ): “أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة…”([40]).
- ويقول ابن قدامة: “ومذهب السلف -رحمة الله عليهم- الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله، أو على لسان رسوله، من غير زيادة عليها ولا نقص منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين، بل أمروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها ومعناها إلى المتكلم بها”([41]).
فاتضح بهذا -بما لا يدع مجالًا للشك- المعنى المراد من رواية حنبل: “بلا كيف ولا معنى”، أي: نقطع العلائق عن إدراك كيفية صفات الله تعالى، وأن لا نحرفها بالتأويلات الفاسدة، فنقول: معناها كذا وكذا. فهذه العبارة من الإمام أحمد مثل قول بعض السلف -في آيات الصفات-: “أمروها كما جاءت بلا كيف”([42]).
والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: سير أعلام النبلاء (11/ 195).
([2]) الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري (ص: 20-21/ نسخة الدكتورة فوقية).
([3]) مجموع الفتاوى (12/ 363)، وقد نقلت كلام أبي الحسن الأشعري بنصه من كتابه الإبانة.
([4]) ينظر من كتب الأشاعرة: السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة (ص: 246)، والقول التمام بإثبات التفويض مذهبا للسلف الكرام (ص: 175).
([5]) السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة (ص: 246).
([6]) في مركز سلف عدة مقالات حول موضوع التفويض وبيان بطلانه، ومنها:
– حقيقة التفويض وموقف السلف منه، ورابطه في الموقع:
– من لوازم القول بالتفويض في معاني صفات الله عز وجل، ورابطه في الموقع:
– من أدلة القائلين بالتفويض وشيء من المناقشة، ورابطه في الموقع:
([7]) يشير إلى ما أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([8]) أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا، ولفظ البخاري: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته».
([9]) أخرجه البخاري (4849)، ومسلم (2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، ولفظ البخاري: «يقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها، فتقول: قط قط».
([10]) إلى هنا انتهت الرواية عند أبي يعلى في إبطال التأويلات (ص: 45).
([11]) ينظر: ذم التأويل لابن قدامة (ص: 22).
وينظر: الفتاوى الكبرى (6/ 386- 387)، وبيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 622- 623، 3/ 708- 709)، ودرء تعارض العقل والنقل (2/ 30- 31)، ومختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للبعلي (ص: 468- 469).
([12]) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (3/ 502).
وينظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 470).
([13]) ينظر: الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 242- 243).
([14]) ينظر: الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 58).
([15]) تحريم النظر في كتب الكلام (ص: 39).
([17]) وهي أن الإمام أحمد تأوَّل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} فقال: ثوابه، وفي مركز سلف مقالة بعنوان: تأويل الإمام أحمد لقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} في ميزان النقد، وهذا رابطها:
تأويل الإمام أحمد لقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} في ميزان النقد
([18]) ينظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للبعلي (ص: 474).
([19]) فتح الباري لابن رجب (7/ 229).
([21]) إبطال التأويلات (ص: 196).
([23]) إبطال التأويلات (ص: 45).
([24]) درء تعارض العقل والنقل (2/ 31).
([25]) الإبانة الكبرى (7/ 326).
([26]) إبطال التأويلات (ص: 297).
([27]) الحجة في بيان المحجة (1/ 473).
([28]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 512)، والفتاوى الكبرى (6/ 387)، ودرء تعارض العقل والنقل (2/ 31).
([29]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 512)، والفتاوى الكبرى (6/ 387)، ودرء تعارض العقل والنقل (2/ 31- 32).
([30]) مجموع الفتاوى (17/ 363- 364).
([31]) العقيدة للإمام أحمد رواية أبي بكر الخلال (ص: 102).
([32]) هو من كلام عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة.
([33]) العقيدة للإمام أحمد رواية أبي بكر الخلال (ص: 103).
([34]) المرجع السابق (ص: 108).
([35]) المرجع السابق (ص: 103-104).
([36]) إبطال التأويلات (ص: 55).
([37]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 207). وينظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (ص: 745).
([38]) فتح الباري لابن رجب (6 /535).
([39]) ينظر: العلو للعلي الغفار للذهبي (ص: 236).
([40]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 145).
([42]) ينظر: تحريم النظر في كتب الكلام لابن قدامة (ص: 38)، والعرش للذهبي (2/ 251).