تناقضات خصوم السلفيّة والهروب من الواقع
لا يوجد حِراك علميٌّ في عصرنا الحديث عانى من الظلم والجور والتمييز مثل ما عانت السلفيَّة من خصومها، حتى إنَّ العقلاء من خصومِها وأربابَ العدل إذا تعلَّق الأمر بالسلفية استعاروا عقولَ غيرهم، وفكَّروا برؤوسٍ مشوهة كأنما لم يخلقها الله على أجسادِهم، وما ذاك إلا تماديًا في الظلم والتنازل عن ميثاق شرف الخصومة الثقافيَّة الذي يمنع التشنيع والكذب والبهتان على الخصم. والعجب أن يصطفَّ من ينتسب للسُّنَّة مع خصوم السلفية، حتى ولو كانوا يخالفونه عقديًّا وفكريًّا، كما هو حال غلاةِ الصوفية مع الشيعة والعلمانيين، حيث رضُوا بالتحالف معهم وترديد أكاذيبهم ومدِّ يد الصلح إليهم، مع إظهار الحرب والبُغض والقيلة مع جيرتهم في السكن والثَّقافة.
والأغرب من هذا كلِّه أن يجلس الصوفيُّ الغالي والأشعريُّ والشيعيُّ وغيرهم من المخالفين يردِّدون تهمةَ التكفير ويلمزون السلفيَّة بها، ويَنسون أنفسَهم، فينسى الشيعيُّ أن كثيرا منهم يكفِّر الصحابة الكرام، بل يكفرون عامة المسلمين! وينسى الأشعري أنه يكفر عوامَّ المسلمين، وينسى الصوفيّ الخرافةَ والدجلَ والصراع على النفوذ، لا لشيء يعود للأمة بالنفع، وإنما ليبقى له تكسبه اللامشروع بدعوى الكشف والإلهام والكرامات والبناء على القبور.
وفي الوقت نفسه يجتمع هؤلاء أو كثير منهم على حين فترة من عقل وانقطاع عن واقع حياتهم وتصرفاتهم ليتَّهموا السلفية بالخنوع والإرجاء والانبطاح، فهل يمكن أن تتحمَّل السلفية التهمةَ ونقيضَها؟! وقد قيل قديمًا: علامة فساد الحكم تناقضُه في نفسه، مثل قول الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: ساحر أو مجنون.
ولنختبر دعوى التكفير لدى السلفية: هنا يحسن بنا أن نفرق بين مقامات وهي مقام التكفير بحق شرعي وتحقق الضوابط وإسناد الأمر إلى أهله، ومقام التكفير بمجرد التشهي والباطل والشبهة، وكثيرًا ما دندن خصوم السلفية حول هذه التهمة، فرموها بالتكفير، وقد يقول قائل: هم يرمون بالتكفير من ظهر منه غلوّ وانتسب للسلفية كداعش وأخواتها، فنقول: هذه دعوى مردودة، بل الخصوم المذكورون يصرِّحون باسم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله-، ويجعلون داعش وأخواتها مجردَ تحقُّق عمليٍّ لفكرهما، وكثير من كتابات الشيعة وغلاة الأشاعرة وغلاة المتصوِّفة طافحة بنسبة هذه الدعوى لعلماء السلفية الكبار، وهنا حين نحاكم الجميع إلى منطق علميٍّ نجد أن هذه الدعوى منقوضة من نواح متعدِّدة:
أولا: تصريح السلفيِّين عمومًا -تصريحًا لا يقبل الردّ- بالبعد عن التكفير والرد على التكفيريين، وحسبك بمؤلفاتهم في هذا المجال دليلًا يقطع اللسان ويبكِّت الخصم، وكذلك تقعيدهم لقضية التكفير وتبيينهم لشروطه وموانعه، وهذا مبثوث في كتب الأئمة المتقدمين وكتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وعلماء الدعوة الكبار المعاصرين في جميع أنحاء العالم([1]).
ثانيا: وجود أنواع من التكفير عند خصوم السلفية لا توجد عند السلفيين، ومع ذلك لا يسمُّونها غلوًّا في التكفير، وهذه الأنواع ظاهرةٌ لا تحتاج إلى كبير عناءٍ، منها: تكفير الشيعة لعموم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــ بل لعامة المسلمين ــ وهم الذين يجزم المسلمون بإيمانهم؛ لأن القرآن نطق به، ومع ذلك يتوارى خصوم السلفية عن هذه الزلَّة الشنعاء عند القوم، ولا يتكلمون عنها، وبالرغم من تبرّؤ السلفيين من الغلاة في جميع أنحاء العالم والردِّ عليهم فإن الشيعة لم يتبرَّؤوا من الحركات الإرهابية المنسوبة إليهم، والتي قتلت المسلمين في العراق وسوريا واليمن، وما زالت محلَّ تقدير واحترام من الحوزات العلمية، ومع ذلك لا يعدُّ هذا الفساد في الأرض وقتل الناس على الهوية غلوًّا ولا إرهابًا، فإذا لم يكن هذا ازدواجًا في المعايير فأين هو التناقض في الدنيا؟!
ويقال الكلام نفسه في غلاة الأشاعرة ومتعصبيهم، إذ يرون أن من لم يكن على مذهبهم الكلاميّ فهو إما كافر أو مجسِّم ضالّ، وقد صرح بذلك كبراؤهم وأشياخهم([2]). والمخالف لهم من أهل العلم يرون كفره وزندقتَه ووجوب التضييق عليه، كما صرَّح بذلك جماعة من علمائهم في حقِّ شيخ الإسلام ابن تيمية، ورأوا أنه يجب التضييق عليه بل وقتلُه([3])!! وهم على مرِّ التاريخ لم يتعامَلوا في كثير من الأحيان مع المخالف لهم في أمور العقيدة إلا بالسجن والقتل، والتاريخ الدموي لابن تومَرت يكفي في التدليل على هذا المعنى، فكيف لأصحاب هذا الفكر أن يتكلَّموا عن التسامح وعن الغلوّ في حين إن السلفية لم تكن لها دولَة عانى فيها الأشاعرة من الظلم.
بل الأغرب أنَّ التراث الإسلاميَّ في اللغة والحديث والتفسير لم يُقصِ فيه السلفيون الأشاعرةَ، بل حققوا كثيرًا من الكتب التي تخدم الأمَّة، ولم يفرقوا في ذلك بين أشعريٍّ وسلفيٍّ أثريٍّ، والواقع شاهد على ذلك، بينما كان يرى الأشاعرة ولا زالوا أن انتشار كتب السلفيَّة يشكِّل خطرًا على الأمَّة، ولا يرون حلًّا إلا طريقة الحرق والإتلاف والتضييق، وحسبك بطيب أنفُسهم بأن يسجن شيخ الإسلام وتلاميذه كابن القيم وابن كثير والمزي وابن شاكر الكتبي وغيرهم بسبب رأيٍ فقهيٍّ أو عقديّ، ثم يتحدثون بكل عفويّة عن الإقصاء، فهذا لعمر الله هو التناقض بعينه!
هذا مع التكفير بالمحتملات ودقيقات المسائل التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا كلّف بها أحدًا من خلقه، بل هي مجرَّد تكلّف محض ابتلي به المتكلمون، وحملوا الناس عليه، وهم الذين كفَّروا من خالفهم في مسألة تسلسل الحوادث، وهي قضية كلاميّة دقيقة، لا يكفَّر بها مسلم ثبت إسلامه.
ومن التناقض أيضا الذي يقع فيه خصوم السلفية: أنهم في مقابل رميها بالتكفير والغلوِّ لا يفتؤون يجعلون منها درعًا للحكام، وسببًا في تدجين المجتمعات على حدِّ زعمهم، ويتغافل هؤلاء الخصوم عن الدولة الدينية الإيرانية، والتي تحكم بولاية الفقيه وخرافة المهديّ المنتظر، ويغفلون ويتغافلون أن جلَّ الأنظمة ترفع شعار الصوفية والأشعرية والمذهبية في مقابل السلفية، وإذا أرادوا مخالفة شرع أو إقرار باطل فإنما يتدثَّرون بهذه المذاهب لا غيرها، والواقع حكم، فمن المتهم وأين الإنصاف!؟
فهذه تناقضات تخبر الحاذِق على بطلان دعاوى المناوئين للسلفية، والتناقض دليل الهوى وعلامة البطلان في القول، ونحن إذ نقرر هذا المعنى فإننا ندافع عن منهج لا عن تجمّع بعينه ولا أفراد، فإن الناس بشر، ومنهم السلفيون، لا نبرّئهم من الخطأ ولا من النسيان، لكن فرق ما بين السلفية وغيرها هو أن المخطئ يعرف خطأه بمخالفته للمنهج، وينكره عليه قومه، ولا يقرّونه، أما غيرهم فإن خطأه نابع من منهجه، وهو فيه مصيب من وجهة نظر أهله، وهو أحظى بالحق من مخالفيه من أهل منهجه لموافقته لأصله والمقرر عنده في كتبه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: مجموع الفتاوى (12/ 487)، جامع العلوم والحكم (ص: 83). وانظر: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 145).
([2]) ينظر: شرح اللمع، للشيرازي (1/ 111).
([3]) ينظر: كنز الدرر وجامع الغرر (9/ 138) والجامع لسيرة ابن تيمية.