ترجمة العلامة السلفي التقي بن محمد عبد الله
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
شهد القرن الماضي في شنقيط أعلامًا سلفية ضنَّ الزمان بمثلها، وكانوا أئمةً في كل الفنون، وإليهم المنهى في علوم المنقول والمعقول، هذا مع زهد ظاهر وعبادة دائمة، فنفع الله بهم البلاد والعباد، وصحَّحوا العقائد المنحرفة، ووقفوا في وجه الخرافة.
ومن هؤلاء: الشيخ العلامة محدث شنقيط وشيخ الشيوخ التقي ابن محمد عبد الله بن محمد محمود بن محمد الوليد بن خطري. ينتهي نسبه إلى عقبة بن نافع الفهري، وهو ينتسب إلى أخواله الشرفاء الذين سكن فيهم وعاش فيهم، وهم آل ببكر بن البشير من ساكنة الحوض الشرقي.
نشأة الشيخ وتعلّمه:
ولد الشيخ رحمه الله عام 1946م في ولاية الحوض الشرقي، وتلقى التعليم المحظري كسائر أهل بلده، “حفظ كتاب الله مبكّرا على والده قبل وفاته رحمه الله، ثم تابع الحفظ على عمه محمد محمود الملقب “أُداع” بن خطري، ثم أخذ الإجازة في مقرأ الإمام نافع على خاله الشيخ العافية بن محمد الفقيه القلقمي.
وأخذ لامية الأفعال لابن مالك في التصريف، وأكمل الألفية مع توشيح ابن بونه على الشيخ الطالب أحمد بن الديد الجماني، كما أخذ عليه “نيل الأرب في مثلثات كلام العرب”.
وأخذ أيضا عن الشيخ عبد الله بن محمد فاضل بعض علوم العربية.
ودرس مختصر خليل في الفقه المالكي وتحفة الحكام لابن عاصم (العاصمية) على الشيخ طويل العمر بن ملاي الكبير، وقد كان هذا الشيخ (طويل العمر) يدني شيخنا ويقربه.
كما تلقّى شيخنا على الشيخ محمد فاضل بن أحمد سلوم الذي كان ينتقل بين مالي وموريتانيا، وغالبا ما كانا يلتقيان في “الآبار” وهي على الحدود بين مالي وموريتانيا.
ومن شيوخه الذين تلقَّى عنهم أيضا: الشيخ محمد فضل الله بن أيدّه الوَسري.
وفي سنة 1966م انتقل شيخنا إلى مدينة “ولاته”، وأخذ عن إمام مسجدها الشيخ: محمد جدُّو بن محمد الأمين، وهو من تلامذة العلامة محمد يحيى بن سليم، وقد أجاز الشيخ محمد جدو شيخنا في موطأ الإمام مالك.
وقد كان الشيخ مهتمًّا بكتاب التوحيد لابن خزيمة، وإعلام الموقعين لابن القيم.
لقاؤه بابن أبي مدين:
وقد التقى بالعلامة السلفي الأثري الفقيه المحدث الكبير: محمد بن أبي مدين، والذي حدا بشيخنا إلى لقائه وقوفُه على مقال للشيخ ابن أبي مدين.
كان الشيخ محمد بن أبي مدين رحمه الله داعيًا إلى الكتاب والسنة، صادعا بذلك، وكان محبًّا للشيخ مقرّبا له، حتى إنه قرظ للشيخ بحثا كتبه هذا الأخير في “الحلف بالحرام”، يقول ابن أبي مدين فيه:
ما إن لغير الكتاب المستضاء به فيـــها ولا لســـوى الآثار قد ذهبا
ما زال يجمع آثارا ويتْبــــــــعها يحجو جميع الذي قــــد خالفته هبا
وكم أراد ذوو التقليد رجعــــــته إلى مقال الذي قـــد قلــــــدوا فأبى
إن يغترب مثله يوما فــلا عجب في البدء والعود ظل الدين مغتربا
وكان ابن أبي مدين رحمه الله يلقب الشيخَ بطريد السنة، أي: المطرود من الجهال بسبب تمسّكه بالسنة، وقد قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: (لَم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودِيَ).
لقاؤه ببداه بن البوصيري:
وقد التقى الشيخ أيضًا ببداه بن البوصيري رحمه الله في انواكشوط، وأهدى إليه صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قرأها قال: صلّينا بها من التكبير حتى التسليم.
وأجازه الشيخ بداه بما أجاز له الشيخ محمد سالم بن عبد الودود رحمه الله عن العلامة محمد الطاهر بن عاشور التونسي رحمه الله، كما قرأت بخطّ بداه، وذلك بتاريخ: يوم الاثنين لستّ بقين من شوال عام 1388هـ.
كما أجازه الشيخ بداه بما أجاز له الشيخ المختار بن ابلول، عن الشيخ أحمد بن الشمس رحم الله الجميع.
ثم لما رحل الشيخ أجاز للشيخ بداه “الأوائل العجلونية” وما تضمنه “المنهل الروي الرائق” للسنوسي، ثم استجاز شيخنا من الشيخ محمد سالم بن عبد الودود طلبا للعلو، فأجازه بما تضمنته إجازة ابن عاشور له، وذلك -كما قرأت بخط الشيخ محمد سالم- لست بقين من شوال سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف.
رحلات الشيخ إلى الخارج:
رحل الشيخ إلى تونس، فالتقى فيها بالشيخ المفسر مفتي الديار التونسية محمد الطاهر بن عاشور الحسني رحمه الله، فأجازه بما رواه عن جده محمد العزيز بو عتور، وبما رواه عن شيوخه: محمود بن الخوجة، وسالم بو حاجب، وعمر بن أحمد المعروف بـ: “ابن الشيخ”، وذلك في ربيع الثاني سنة تسعين وثلاثمائة وألف كما قرأت بخط الشيخ ابن عاشور”([1]).
علم الشيخ وسلفيته:
حدثني الشيخان المحدث محمد سيديا ولد أجدود الملقب بـ: (النووي) والشيخ محمد زوق الملقب بـ: (الشاعر) أن الشيخ كان على علم متقدم بالنحو، ويدرس الكافية الشافية لابن مالك، هذا مع علمه بكتب المذهب المالكي صغارها وكبارها، وكان يدرس خليلا مع تأكيده على عدم التقليد والجمود، ودعوته للكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وكان له ميل إلى الحديث وإلى فقهه، أحيانا يوقع في بعض الظاهرية التي قد تؤدي إلى رفض جزئي للتمذهب، لكن دينه وعلمه وتقواه كانا يغلبان على ذلك كله، وقد اعتنى بأخرة بعلم الحديث بمصطلحه وعلله، وكان يدرس الموطأ للإمام مالك، ويعتني ويحرص على بيان عقيدة السلف، وقد عمل في القضاء، وحرص على الحكم بما يراه دينا، وكان يعد رائد السلفية المعاصرة بعد العلامة بداه، وأحد أبرز شيوخها، وقد اتفق الجميع على الشهادة له بالاستقامة واتباع منهج السلف علما وعملا، وله في نصرة السنة والعقيدة مواقف معلومة مشهودة.
لم يخصّ الشيخ العقيدة بتأليف خاص، لكنه كان يحرص على بيانها للناس، وله أشرطة في مسائل العذر بالجهل رد فيها على بعض ما يراه إرجاء، وكان متبنيا لأحد أوجه الخلاف في المسألة ومرجّحا له.
وأثر عن الشيخ الرفق في الدعوة، والحرص على العبادة، وتربية الناس على السنة، ومحاربة الجمود المذهبي، والدعوة إلى تعلم الحديث والعمل به، وكان في ذلك مثلا يحتذى به رحمه الله.
مؤلفاته ووفاته:
للشيخ مؤلفات عدة، غالبها في السنة وشرحها وتقريبها، لم يفرد العقيدة بالتأليف؛ لأنه اكتفى بالدعوة والتعليم، واستغل لذلك منصبه في القضاء وتدريسه في معهد ابن عباس، وظل منافحا عن عقيدة السلف، إلى أن وافاه الأجل، وذلك ليلة الأربعاء لثمان بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وألف.
ونختم بوصف تلميذه له حيث قال: “ولقد كان القرآن إمامه، والسنة نحلته، لم يهن فيهما ولا ونى حتى واروه في لحده”([2]).
وقد أجمع من يعرفه من شيوخ السلفية في القطر الشنقيطي على إمامته في الدعوة والتعليم وحب الخير ونشر السنة وإحياء روح الاتباع، في مجتمع ساد فيه التقليد والجمود المذهبي، واستسلم بعض أهله للخرافة، واكتفوا من الخير بمأثور الآباء والأجداد، ووقفوا عنده وزهدوا في غيره، حتى سخر الله هذا العالم، فحرك ما كان راكدا، ونفض الغبار عما كان مخفيا، فأنار الله به الطريق، وهدى به إلى السبيل القويم.
ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) تجد ترجمة له على هذا الرابط، كتبها تلميذه أبو ميمونة محمد بن الدي، وقد نقلنا منها ببعض التصرف والاختصار، بالإضافة إلى أخبار المشايخ مشافهة:
https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=331536