الأربعاء - 27 ذو الحجة 1445 هـ - 03 يوليو 2024 م

قتالُ الصحابة للمرتدِّين..بين الالتزام بالشرع والتفسير السياسيِّ

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

شكَّلت حروبُ الردَّة موضوعًا خصبًا لكثير من الكتَّاب والباحثين، وتصارَعت فيها الأقلامُ، وزلَّت فيها الأقدامُ، وحارت الأفهامُ، وكثُرت الأصوات على كلِّ طالبٍ للحق فيها، حتى لم يعُد يميّز الجهر من القول؛ لكثرة المتكلِّمين في الموضوع. وقد اختَلف المتكلمون في الباب بعدَد رؤوسهم، بل زادوا على ذلك، فبعضهم صار له في المسألة قولان أو ثلاثَة.

والمفتونون بالتفسير السياسيِّ للتصرُّفات الدينيَّة لا يكادون يفهمون نصًّا ولا قولًا إلا في هذا المضمار، ومع أنَّ كلمةَ السياسي والإضافة لها ليسَت ذمًّا بإطلاق، لكن خُبث الاستدلال شوَّه دلالتها، وانحاز بها إلى النِّفاق واستغلال المواقف وتقديم مَقصد المكلَّف على مقصد الشارع، ففقدت العبارة قيمتَها، وتراجعت مصداقيتها.

إلا أنه من المعلوم لدَى كلِّ دارسٍ للشرع أن تصرفاتِ الحاكم بمقتضى السياسة الشرعية ليست قدحًا فيه ولا في تصرُّفاته، ولا وسيلة لنزع القداسة عنها؛ لأنَّ بعض التصرفات التي تسمَّى سياسة في الفقه مستندُها إلى الشرع، وإلى مقاصد الشرع وفروع الأدلَّة، ولا يلزم من تسميَتها سياسة أن تكونَ متغيِّرة بتغير الزمان والمكان، بل علاقتُها بالقدرة والاستطاعة والظروف المواتية ووجود المعنيِّين بها، ومن هذا النوع حدود الشرع التي شُرعَت لردع المجرمين وكلِّ خارج على المجتمع، سواء على هويَّته الدينية أو سلطانه السياسيّ، وإذا أخذنا قضية الردَّة في عهد الصحابة مثلا على ما تكلَّمنا عنه فإنه سيتجلَّى لنا الموضوع بكلِّ وضوح.

وقبل الخوض في الموضوع لا بدَّ أن نقدِّم بمقدِّمة هامَّةٍ، وهي مفهوم الردَّة.

مفهوم الرَّدةِ:

يخلِط كثير من الناس بين مفهوم الرِّدَّة وحَدّ الردَّة، ومعلوم أنَّ المفهوم أعمُّ من الحد؛ إذ الحد عقوبة مترتِّبة عليه بشرط توفُّر الشروط وانتفاء الموانع. والتحقُّق من ذلك أمرٌ راجع إلى سلطان الشرع، وليس إلى آحاد النّاس. بينما حُكم الردَّة ومفهومها فهو من المفاهيم التي يشترك فيها عامَّة الناس؛ لأنَّ الجميع مطالَب شرعًا بالحذر منها وتوقِّيها: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة: 217].

وقدِ اتَّفقت كلمةُ الفقهاء على أنَّ الردَّة تعني الرجوعَ عن ملة الإسلام طوعًا بقول أو فعل، وعباراتُهم في ذلك متقاربةٌ.

يقول الكاساني الحنفي: “إجراءُ كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان؛ إذ الردةُ عبارة عن الرجوع عن الإيمان”([1]).

وقال خليل: “كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه”([2]).

وقرَّر المتِّيطي أن الكافرَ إذا نطق بالشهادتين ووقف على شرائع الإسلام وحدوده والتزمها تمَّ إسلامه، وإن أبى التزامَها فلا يقبل منه إسلامه، ولا يُكره على التزامِها، ويُترك لدينه، ولا يُعَدُّ مرتدًّا، وإذا لم يوقَف هذا الإسلاميّ على شرائع الإسلام فالمشهور أنه يؤدَّب ويشدَّد عليه، فإن تمادى على إبايته ترك في لعنة الله. قاله الإمام مالك وابن القاسم وغيرهما -رضي الله تعالى عنهم- وبه العمل والقضاء([3]).

ويقول النووي: “الردَّة هي قطع الإسلام بنيَّة، أو قول كفر، أو فعله، سواء قاله استهزاءً، أو عنادًا، أو اعتقادًا”([4]).

ويقول البهوتي الحنبلي: “المرتدُّ شرعًا: الَّذِي يَكْفُرُ بَعْدَ إسْلَامِهِ نُطْقًا أَوْ اعْتِقَادًا”([5]).

كما نصُّوا على أن الردَّة عن الإسلام أغلظ من الكفر الأصلي لثلاثة معان:

أحدها: أنه لا يُقَرّ على ردَّته وإن أقِرَّ الكافر على كفره.

والثاني: أنه بتقدُّم إسلامه قد أقرَّ ببطلان الدين الذي ارتدَّ إليه، ولم يكن من الكافر إقرار ببطلانه.

والثالث: أنه يُفسِد قلوبَ ضعفاء المسلمين، ويقوِّي نفوسَ المشركين، فوجب لغِلَظ حاله أن يُبدَأ بقتال أهله، فإذا أراد قتالهم لم يَبدأ به إلا بعد إنذارهم وسؤالهم عن سبب ردتهم، فإن ذكروا شبهة أزالها، وإن ذكروا مظلمة رفعها([6]).

والمرتدّون عنِ الإسلام إما أن يكونوا جماعةً، وإما أن يكونوا فرادَى، فإن كانوا فرادى فأمرهم سهلٌ، يُستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، وإن كانوا جماعةً وتمنَّعوا فإنَّ قتالهم فيه تفصيل نبَّه عليه الفقهاء، وأَجمَله الماورديُّ في قوله: “فإن أصرّوا بعد ذلك على الردَّة قاتلهم، وأجرى على قتالهم حكمَ قتال أهل الحرب من وجه، وحكم قتال أهل البغي من وجه. فأمَّا ما يساوون فيه أهلَ الحرب من أحكام قتالهم ويخالفون فيه أهل البغي فمن أربعة أوجه:

أحدها: أنه يجوز أن يقاتَلوا مدبرين ومُقبلين، ولا يقاتَل أهل البغي إلا مقبلين.

والثاني: يجوز أن يوضَع عليهم البيان والتحريق، ويرموا بالقرادة والمنجنيق، ولا يجوز ذلك في أهل البغي.

والثالث: إباحة دمائهم أسرى وممتنعين، ولا يجوز ذلك في أهل البغي.

والرابع: مصير أموالهم فيئا لكافة المسلمين، ولا يكون ذلك في أموال أهل البغي.

وأما ما يوافِقون فيه أهلَ البغي ويخالِفون فيه أهل الحرب فمن أربعة أوجه:

أحدها: أنهم لا يهادَنوا على الموادَعة إقرارًا على الردَّة، وإن جاز مهادنة أهل الحرب.

والثاني: أنه لا يجوز أن تؤخذ منهم الجزية، ولا أن يصالحوا على مال يُقرّوا به على الردة، وإن جاز ذلك في أهل الحرب.

والثالث: أنه لا يجوز أن يستَرقّوا، وإن جاز استرقاق أهل الحرب.

والرابع: أنه لا يجوز أن تُسبى ذراريهم، ولا تُغنم أموالهم، وإن جاز ذلك في أهل الحرب([7]).

وبهذا يتبيَّن أن هناك سببًا لمقاتلة الإمام لبعض الطوائف، وهذا السببُ ليس بغيَهم ولا خروجَهم على السلطة، بل هو رِدّتهم عن الإسلام. وقد كتب الله أن وقَع الاثنان معًا في عهد الصحابة، فقاموا بأمر الله فيهم، وبيَّنوا حكمَه، وفرَّقوا بين من قوتِل لأجل بغيه على السلطة الشرعية ونزعه اليد من الطاعةِ، وبين من قوتِل لأجل ردَّته. وفي المبحث الآتي نبين موقف الصحابة من المرتدين.

المبحث الأول: موقف الصحابة من المرتدين:

حين يفسِّر بعضُ الناس قتالَ الصحابة للمرتدين بأنه كان سياسيًّا ولأجل خروجهم عن السلطة فإن هذا يبدو مستساغا ما دام المرتدّون جماعةً، لكن حين ندرس موقفَ الصحابة من المرتدِّ نفسه -وهو الواحد الذي لم يرتكب جريمة ولا دعا إلى سلطان، وإنما انحصر تصرُّفه في الرجوع عن الإسلام- فإنَّ موقف الصحابة سيكونُ حاسمًا لأحد التفسيرَين، وهو أنهم قاتلوا المرتدّين لأجل رِدَّتهم، والثاني أنهم قاتَلوهم لأجل خروجهم عن الدولة. ودونك نصوصَ الصحابة في حكم المرتد عن دينه:

لما قدِم معاذ بن جبل على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في اليمن ألقى له وسادة وقال: انزل، فإذا رجل عنده موثَق، فقال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًّا فأسلم ثم تهوَّد، فقال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتل؛ قَضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به فقُتِل([8]).

وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وعبد الله بن عامر قالا: كنا مع عثمان رضي الله عنه في الدار وهو محصور، فخرج يومًا متغيِّرا لونُه، فقال: إنَّهم ليواعدوني القتلَ! فقلنا: يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين، قال: بم يقتلوني؟! وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير حقّ»، فوالله ما زنيت بجاهلية ولا إسلام، ولا قتلت نفسا بغير نفس، ولا تمنَّيت بديني بدلا مذ هداني الله عز وجل، فبم يقتلوني؟!([9]).

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كان ناسٌ من بني حنيفة ممن كانوا مع مسيلمة الكذاب يفشون أحاديثَه ويبكونه، فأخذهم ابن مسعود رضي الله عنه إلى عثمان، فكتب إليه: أنِ ادعهم إلى الإسلام، فمن شهد منهم أن لا إله إلا الله واختار الإيمانَ على الكفر فاقبل ذلك منهم وخلِّ سبيلهم، فإن أبوا فاضرب أعناقهم. فاستتابهم فتاب بعضُهم وأبى بعضهم، فضرب أعناق الذين أبوا([10]).

وكتب عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب: أنَّ رجلًا استبدل الكفر بعد إيمانه، فكتب إليه عمر: استَتِبه، فإن تاب فاقبَل منه، وإلا فاضرب عنقَه([11]).

فإذا كان هذا هو قول آحاد الصحابة في آحاد المرتدِّين الذين لا منَعَة لهم ولا شوكةَ، فكيف بقولهم في الجماعة الممتنعة منهم؟! لا شكَّ أن الفقه يقتضِي أنهم أولى بالحكم من غيرهم، ومع ذلك وقع خلطٌ عند بعض الناس بين الطوائف التي قاتل أبو بكر، فظنّوهم جميعًا على مرتبة واحدةٍ، والحق أن فيهم الطوائفَ الممتنعة عن بعض شعائر الإسلام، وفيهم المرتدين عن الإسلام، وهذا ما سنبيِّنه في المبحث الآتي.

المبحث الثاني: المرتدّون في عهد الصحابة والفرق بينهم وبين غيرهم:

ثبت لنا في المبحث الأول تنصيصُ الصحابة فقهاءَ وخلفاءَ وقضاةً على قتل المرتدِّ، لا لعلَّة غير الردَّة، وفتواهم بذلك وقضاؤُهم، وهو نصٌّ في محل النزاع لمن له مَقنَع شرعيّ ومنزع موضوعيّ. والغرض من هذا المبحث تحصِين المآخذ ودفعُ الشبهة والاعتراض عن الدليل؛ وذلك بالتمييز بين قتال البغاة الممتنعين عن الشرائع وطاعة الإمام وبين المرتدّين، فقد نصَّ المحقِّقون من أهل العلم على أن ما عرف بحروب الردّة شمل أصنافا من الناس، فيهم المرتدون وغيرهم، وممن نص على ذلك الإمام الشافعي، وأجاب عن الإشكال الوارِد على المصطلح فقال: وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان، منهم قومٌ كفروا بعد الإسلام مثل طُلَيحة ومُسَيلمة والعَنسي وأصحابهم، ومنهم قوم تمسَّكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات. فإن قال قائل: ما دلَّ على ذلك والعامة تقول لهم: أهل الردة؟ قال الشافعي رحمه الله تعالى: فهو لسان عربيّ، فالردة الارتداد عما كانوا عليه بالكفر، والارتداد بمنع الحقِّ. قال: ومن رجع عن شيء جازَ أن يقال: ارتدَّ عن كذا، وقول عمر لأبي بكر: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»؟! في قول أبي بكر: هذا من حقِّها، لو منعوني عناقًا مما أَعطَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، معرفة منهما معا بأن ممن قاتلوا من هو على التمسُّك بالإيمان، ولولا ذلك ما شكَّ عمر في قتالهم، ولقال أبو بكر: قد تركوا لا إله إلا الله فصاروا مشركين، وذلك بيِّن في مخاطبتهم جيوشَ أبي بكر وأشعار من قال الشعر منهم، ومخاطبتهم لأبي بكر بعد الإسار، فقال شاعرهم:

ألا أصبحنا قبل نائرة الفجر … لعل منايانا قريب وما ندري

أطعنا رسول الله ما كان وسطنا … فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر؟!

فإن الذي يسألكمو فمنعتم … لكالتمر أو أحلى إليهم من التمر

سنمنعهم ما كان فينا بقية … كرام على العزاء في ساعة العسر

وقالوا لأبي بكر بعد الإسار: ما كفرنا بعد إيماننا، ولكن شححنا على أموالنا. وقول أبي بكر: لا تفرِّقوا بين ما جمع الله، يعني فيما أرى والله تعالى أعلم: أنه مُجاهِدُهم على الصلاة، وأن الزكاة مثلُها، ولعل مذهبَه فيه أن الله عز وجل يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وأن الله تعالى فرض عليهم شهادة الحقِّ والصلاة والزكاة، وأنه متى منع فرضًا قد لزمه لم يترك ومَنْعَه حتى يؤدِّيَه أو يقتَل([12]).

وقال الخطابي موضِّحًا ذلك: “ومما يجب أن يعلم هاهنا أنَّ الذين يلزمهم اسمُ الردة من العرب كانوا صنفين: صنف منهم ارتدّوا عن الدين ونابذوا الملة وعاودوا الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: وكفَر من كفر من العرب، وهم أصحاب مسيلمة ومن سلك مذهبهم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والصنف الآخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقرّوا بالصلاة وأنكروا الزكاة، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي، وإنما لم يُدعَوا بهذا الاسم على الاختصاص به لدخولهم في غمار أهل الردَّة، فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين خطبًا، وصار مبدأ قتال أهل البغي مؤرَّخا بأيام عليّ بن أبي طالب؛ إذ كانوا منفردين في عصره لم يختلطوا بأهل شرك، وفي ذلك تصويب رأي عليّ في قتال أهل البغي، ودليل على أنه إجماع من الصحابة كلهم”([13]).

ويجلِّي ابن عبد البر المسألة فيقول: “كانت الردَّة على ثلاثة أنواع: قوم كفروا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، وقوم آمنوا بمسيلمَة وهم أهل اليمامة، وطائفة منعت الزكاة وقالت: ما رجعنا عن ديننا، ولكن شححنا على أموالنا، وتأولوا ما ذكرناه.

فرأى أبو بكر رضي الله عنه قتال الجميع، ووافقه عليه جميع الصحابة بعد أن كانوا خالفوه في ذلك؛ لأنَّ الذين منعوا الزكاة قد ردّوا على الله قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وردّوا على جميع الصحابة الذين شهدوا التنزيلَ وعرفوا التأويلَ في قوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]، ومنعوا حقًّا واجبًا لله على الأئمة القيام بأخذه منهم، واتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على قتالهم حتى يؤدّوا حقَّ الله في الزكاة كما يلزمهم ذلك في الصلاة.

إلا أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم أجرى فيهم حكم من ارتدَّ من العرب تأويلا واجتهادا، فلمَّا وَلي عمر بن الخطاب رأى أن النساءَ والصبيان لا مدخلَ لهم في القتال الذي استوجَبه مانع الزكاة حقِّ الله، وفي الأغلب أنهم لا رأي لهم في منع الزكاة”([14]).

وعبارة الماوردي قريبة من كلام الخطابي حيث قال: “فأما أبو بكر رضي الله عنه فإنه قاتل طائفتين: طائفة ارتدَّت عن الإسلام مع مسيلمة وطليحة والعنسي، فلم يختلف عليه من الصحابة في قتالهم أحد، وطائفة أقاموا على الإسلام ومنعوا الزكاة بتأويل اشتَبَه، فخالفه أكثر الصحابة في الابتداء، ثم رجعوا إلى رأيه ووافقوه عليه في الانتهاء حين وضح لهم الصواب، وزالت عنهم الشبهة”([15]).

ويتبيَن من التفصيل الذي مرّ معنا عدّة أمور، منها: أنَّ الخلاف بين الصحابة لم يقع في قتال المرتدين، وإنما وقع في مانعي الزكاة، ثم أجمعوا على قتالهم، ورجع عمر إلى قول أبي بكر، لا لأنه الإمام؛ بل لأنه بيَّن مستنده الشرعيَّ كما هو موضح في الروايات([16]).

ومنِ استقرأ الروايات الواردة في قتال أهلِ الردَّة تبين له بما لا يدع مجالا للشكِّ أن هناك مناطين مختلفين:

المناط الأول: مناط الردة، وهو متفق عليه بين الصحابة أنه سبب موجب للقتال، ولم يؤثَر عنهم خلاف في ذلك.

المناط الثاني: منع الزكاة والامتناع عن الشرائع، هل هو سبب موجب للقتال كالردة أم لا؟ وقد اختلفوا فيه على مستويين:

أحدهما: حسم، وهو كون منع الزكاة موجبا للقتال.

والثاني: وهو محل الخلاف الذي لم يرفع، هل يعامل مانعو الزكاة معاملة المرتدين أم لا؟

ولم تطرح قضية الخروج على الدولة والدخول تحت سلطانها وإن كانت سببا موجبًا للقتال منفردًا، لكنَّ له اسما خاصًّا به في الفقه، وهو مصطلح: قتال أهل البغي، ومما يدفع وجود ما يدَّعي هؤلاء من أسباب سياسية وراء قتال المرتدّين تصريح آحاد الصحابة بقتل المرتدّ لردته لا لعلة أخرى.

وهاهنا شبهة نختم بها، وهي تدلّ على عدم فقه قائلها، حيث نفى بعضهم أن يكون أبو بكر قاتل المرتدين؛ لأن المرتدين كانوا موجودين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتلهم ولم يقاتلهم، وحين أراد الاستدلال لهذه الدعوى استدلَّ لها بوجود المنافِقين، وهو خَلطٌ بين حكم من يُظهر الإسلام ويُبطن الكفر وبين من يظهر الكفر ويعتز به، وهذا فارق مؤثر لمن له أدنى إلمام بالفقه الإسلامي، والله الموفق.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) بدائع الصنائع (7/ 134).

([2]) مختصر خليل (ص: 232).

([3]) منح الجليل شرح مختصر خليل (9/ 250).

([4]) منهاج الطالبين (1/ 131).

([5]) كشاف القناع على متن الإقناع (6/ 167).

([6]) الحاوي الكبير (13/ 443).

([7]) المرجع السابق نفس الجزء والصفحة.

([8]) أخرجه البخاري (6923).

([9]) أخرجه أحمد (437)، وأبو داود (4502)، والترمذي (2158)، وابن ماجه (2533)، واختُلف في رفعه ووقفه.

([10]) أخرجه عبد الرزاق (18707).

([11]) أخرجه ابن أبي شيبة (32744).

([12]) الأم (4/ 228).

([13]) أعلام الحديث شرح صحيح البخاري (1/ 741).

([14]) الاستذكار (3/ 213).

([15]) الحاوي الكبير (13/ 101).

([16]) للتفصيل أكثر يراجع المقال الذي في هذ:

https://alabasirah.com/node/420

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017