بين النص والمصلحة ، التأصيل والشبهات [الجزء الأول]
#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات
احتلت قضية العلاقة بين النص والمصلحة حيزاً كبيراً في الدراسات المعاصرة ، ولعل ذلك راجع إلى الارتباط الوثيق لهذه المسألة بقضية الاجتهاد في النوازل المعاصرة ، وبقضية تعظيم الكتاب و السنة ، فهي قضية تتعلق بمكانة النص الشرعي وقدسيته .
كذلك فإن ضغط الواقع ، وشيوع الثقافة الغربية ، وبعد المسلمين عن دينهم ، ألقى – كل هذا – بظلاله على هذه القضية .
لذا لم يكن المعاصرون في هذه القضية على مهيع واحدٍ ، بل اختلفوا في ذلك تبعاً لاختلاف مشاربهم ، وارتبطت هذه القضية بقضية التجديد الأصولي والفقهي ، ومناهج الاستنباط ، وما يتبع ذلك من خلفياتٍ فكريةٍ ، و هذا كله ألقى بأثرٍ كبيرٍ – بلا شك – على فتاوى المعاصرين وأقوالهم حيالَ كثيرٍ من النوازل والمسائل المعاصرة .
وحتى لا نطيل عليك – أيها القارئ الكريم – فما نود الحديث عنه في هذا المقال هو بيان العلاقة بين النص والمصلحة ، وكيف كان موقف علماء المسلمين منها ، ثم نعرج على أشهر الشبهات التي تثار ، ونبين الحق فيها بحول الله وقوته ، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به .
لا شك أن هذا الدِّين قد أكمله الله وأتم به النعمة فهو مصلح لكل زمان ومكان ، قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ( المائدة : 3) ، ولذا فما من حادثة تحدث ، ولا نازلة تكون ، إلا ولها حكم في شريعة الإسلام ، منها ما يكون معرفته بطريق النص الخاص عليها ، ومنها ما تكون معرفته بطريق الاستنباط من القواعد الكلية التي أتت بها الشريعة .
والغاية من هذه الأحكام هو تحقيق مصالح العباد في الدارين ، فإن الله لم يخلق الخلق عبثاً ، ولم يتركهم هملاً ، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} ( الدخان : 38 ) ، وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} ( المؤمنون : 115 ) ، وما أرسل الله الرسل إلا لإقامة نظام البشر على أحسن المناهج وأفضل الأوضاع في الحال والمآل ، قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } ( الحديد : 25 ) ، قال ابن القيم رحمه الله : «فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها »[إعلام الموقعين 3/11] ، بل إن العبادات المحضة – التي لا يقصد بها سوى محض التقرب لله تعالى- تشتمل على منافع دنيوية للعباد ، قال تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }( العنكبوت : 45 ) ، وقال تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة : 103 ] ، وكذلك التشريعات التي تنظم أمور المعيشة في الحياة الدنيا ، فإن الغرض منها هو تحصيل منافع العباد على الوجه الأكمل ، حتى إن القصاص الذي هو إزهاق النفوس بالقتل ما شُرع إلا لما فيه من المصالح التي تعود على البلاد والعباد ، قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[البقرة : 179 ]
هذه النصوص وغيرها : تُبين لك بوضوحٍ وجلاءٍ أن المصلحة هي فيما شرعه الله تعالى ، وأن العباد إنما يلحقهم الفساد والضرر بمقدار بُعدهم عن ذلك الأصل ، قال تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }[الروم : 41 ] ، وقال تعالى بعدما ذكر خبر أصحاب السبت { كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }[ الأعراف : 163]
ولا شك أن أفهام العباد في تقدير المصالح تتفاوت ، فما يكون مصلحة عند البعض قد يكون مفسدة عند آخرين ، فالمصلحة هي المنفعة ، وقد يختلف نظر الشخص الواحد للشيء الواحد فيراه تارة مصلحة ، وتارة أخرى يراه مفسدة ، فكيف يكون الحال عندما يكون النظر من الجم الغفير – الذي ربما تجد فيهم من يخالف في البديهيات – ؟
ثم كيف يكون الحال عندما تنتكس الفطر وتتبدل الأحوال ، ويتدخل الهوى الكامن في النفوس ؟!
لذا كان المرجع في تحديد المصلحة هو الشرع ، وهكذا اتفقت كلمة العلماء على أن المصلحة هي كل ما يؤدي إلى حفظ مقصود الشرع ، سواء أكان في العبادات أم في المعاملات ، يقول الغزالي : « نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ، ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ، ونفسهم ، وعقلهم ، ونسلهم ، ومالهم ، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة ، وكل ما يُفَوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ، ودفعها مصلحة» [المستصفى 1/174] .
وهنا يرد السؤال : كيف يراعي الشرع هذه المصالح ؟
والجواب : إن المنافع التي يراها الإنسان أنها مصالح لا تخلو من أن تكون أحد ثلاثة أقسام :
القسم الأول :
مصالح شهد لها الشرع بالاعتبار ، وهذه هي المصلحة المعتبرة ، وتظهر بوضوح في الأحكام المُعَلَّلَة ، أي الأحكام التي بين الشارع فيها الوصف الذي يترتب عليه الحكم أو يترتب على الحكم ، كقوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] فبينت الآية أن قطع بعض أسباب العداوة والبغضاء مما يترتب على التحريم ، فعلمنا : أن قطع أسباب العداوة والبغضاء من المصالح التي اعتبرها الشرع .
وثَمَّ مثال آخر ، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أولا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) ( رواه مسلم ) فالتحابُّ مترتب على إفشاء السلام ، وعلمنا من هذه العلة المنصوصة اعتبارَ الشارع لمصلحة التحابِّ بين المسلمين .
وقد وضع العلماء ضوابط لمعرفة ما شهد له الشرع بالاعتبار في باب القياس ، أو باب المصالح المرسلة من كتب علم أصول الفقه .
القسم الثاني :
مصالح شهد الشرع لها بالإلغاء ، وهذه هي التي يتصور الإنسان بعقله أو بمقتضى حاجته أنها مصالح ، لكنها على خلاف النص ، وهذه في الحقيقة ليست مصلحة ، وإن توهم العقل في بادي النظر أنها كذلك ، لأن النص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وعقول العباد تتفاوت ، وتختلف ، وهذا هو معنى الرد إلى الشرع فيما تنازعنا فيه ، وهو ما أوجبه الله علينا ، قال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }[النساء : 65 ].
ومن أمثلتها : إظهار المرأة لزينتها ، فقد يقع لدى كثير من عقول البشر أنها مصلحة لما فيها من إظهار الجمال وَلَكِنْ ورد الشرع بإلغائها ، فقال تعالى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [ النور : 31]
القسم الثالث : مصلحة سكت عنها الشرع ، فلم يذكر لها حكماً خاصاً بها باعتبارها أو إلغائها ، فهذه نعلم إباحتها من النصوص العامة والمطلقة ، ومن أمثلتها مصلحة التَّرَفُّه ، أي : رفاهية العيش ، فإنه لا دليل خاص ينص عليها ، لكنها داخلة في عمومات وإطلاقات كثيرة من نصوص الشارع ، كقوله تعالى :{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ }( الأعراف : 32) ومنها نستفيد جواز أدوات الرفاهية في المأكل والمشرب والمسكن والمركب وغيرها ، مالم تصل حد الإسراف والتبذير المنهي عنهما.
وعلى هذا اتفقت كلمة العلماء جميعاً .
إلا أنهم اختلفوا في المصلحة المرسلة هل تعتبر أم لا ؟
والمصلحة المرسلة : هي مالم يرد الشرع باعتبارها أو إلغائها ، لا في نص خاص ولا في نص عام .
وهو خلاف طويل ودقيق جداً في علم أصول الفقه ، فمن العلماء من قال بالمنع ، ومنهم من قال بالإباحة ، ثم أتى جمع من العلماء فوجدوا أنه لا خلاف في الحقيقة بين هؤلاء وهولاء في التطبيق ، لذا صرح كثير منهم بأن الخلاف في الحقيقة هو خلاف لفظي، أي خلاف في التعبير ، ولا أثر له في حقيقة الأمر، لأن الكل متفق في التطبيق ، وهو الثمرة المرجوة من التأصيل .
وَمِمَّا يؤيد قول هؤلاء : أنه يمكن المنازعة في حقيقة وجود المصالح المرسلة ، إذ الأرجح عدم وجود مصلحة لم ينص الشارع على اعتبارها أو إلغائها ، إما بطريق النص الخاص أو النص العام ، والتي يمكن استنباطها بتتبع أحد مسالك العلة التي نص عليها علماء الأصول ، كالمناسبة والاستقراء والسبر والتقسيم والدوران والطرد والعكس .
مضت قرون متطاولة جرى العلماء فيها على هذا الذي لخصناه لك ، وهو أن المصلحة في الحقيقة لا تتعارض مع النص أبداً ، وإن حدث تعارض في الظاهر ، فالذي يقدم هو النص الشرعي ، لأننا نقطع بصدق هذا النص ، ونقطع بكون المصلحة منحصرة في اتباعه ، فلا يكون المعارض له في الحقيقة مصلحة .
ثم جاء الطوفى [ت :716 هـ ] ، وهو أحد علماء الحنابلة الأجلاء في أوائل القرن الثامن الهجري، لم يخالف فيما سبق ذكره من أن المصلحة لا تعارض النص ، لكنه قال قولاً فُهم منه أنه يقدم المصلحة على النص عند التعارض ، فطار به كل من رأى أن في البقاء تحت مقتضى النص مشقة وتعبا ، ورأى في كلام الطوفي ما يُسَوِّغ له أن يرد النص بدعوى المصلحة ، وتَلَقَّف تلك الشبهة كُلُّ من أراد أن يُسَوِّغ باطلاً بدعوى أن المصلحة في تحقيقه .
وبالرغم أنهم تجاوزوا ما ذهب إليه الطوفى ، وتعدوا ما قال به : إلا أن كلامه ومذهبه ظل مُسْتَنَداً أصولياً لهؤلاء كلما أرادوا أن يردوا نصاً شرعياً بدعوى المصلحة ، ولذا كان من الواجب بيان هذه الشبهة وبيان الرد عليها ، وهو ما سنخصص له المقالة القادمة بإذن الله ومنه وكرمه .
إعداد: الفريق العلمي بمركز سلف للبحوث والدراسات [قيد التأسيس]