سِمَاتُ الأَدِلَّةِ الشَّرعيَّة العَقليَّة (21)
للتحميل كملف PDF اضغط هــنــا
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن الأدلَّة الإلهيَّة تفُوقُ كل ما يُخيَّل إلى الإنسان من دلائل، وتمتاز بميزات تخفى على كثير من المسلمين اليوم، ثم هذه الأدلة تضمَّنت كثيرًا من الدلائل العقلية، ولما كانت إلهية المصدر فقد فاقت كل دليل بشري مهما كان أسلوبه أو وسيلته، وهو ما لا يُدركه كثير من طلبة العلم فضلًا عن عامَّة البشر، ويجهله كثيرٌ ممَّن يدَّعي أن الدِّين أسطوريُّ الولادة والنشأة، خرافيُّ الأدلَّة والمحتوى.
وقد ارتفع في زمننا أصوات بعض هؤلاء ممَّن يدَّعي العقل، أو العقلنة، مدَّعين أن دين الإسلام لا مكان للعقل فيه، بل هو مهمَّشٌ موضوعٌ في قائمة المهملات إن لم يكن في سلَّة المحذوفات، ولكنَّ أصول دين الله ليست كذلك، بل هي قائمة على أدلَّة عقلية قوية برهانية متماسكة، يسلِّم بها كلُّ ذي لبِّ عقلَها.
وزاد الطِّين بلَّة وجود من شوَّه الصورة وميَّع الحقيقة من داخل البيت الإسلامي قديمًا وحديثًا، ففي السابق وُجد من تشرَّب المنطق اليوناني المتهافت البنيان واعتمده كمنهج عقلي، ثم حاول إقحامه في بوتقة الإسلام وإضفاءه مسحة إسلامية، الأمر الذي شوَّه الإسلام وضلَّل المسلمين، حتى وُجد منهم مَن يتصوَّر تعارض الدين الإسلامي مع العقل البشري مع أن الكل من عند الله؟!
وفي عصرنا الحاضر وُجدَ في البيت الإسلامي مَن تشرَّب الفكر الغربي الحديث بدعوى أنه المنهج العقلي الأوحد، والفِكر الحق المطلق، فبعضهم آمن به، وبعضهم حاول لي عنق الإسلام له، {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]، فالذي يحصل في عصرنا مع الفكر الغربي هو ذاته الذي حصل مع الفكر اليوناني.
ولهذا وذاك حاولنا في هذه الورقة إبراز سمات الأدلَّة الشرعية العقليَّة الحقَّة؛ لتتجلَّى خصائصها وتميُّزها عن كل دليل زائف، وتظهر قوة الإسلام في براهينه وحججه ومحتواه؛ ليزداد المؤمنين إيمانًا، وتتوق أفئدة البشر إلى تلك الحجج الإلهية.
والله نسأل أن يتقبَّل جهودنا، ويكتب لها القبول في السماء والأرض، ويجعله ذخرًا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون.
تمهيد
يتَّسم الدين الإسلامي ويختصُّ عن غيره من الأديان بمنهجه المعرفيِّ المتكامل، فهو يعتمد الحسَّ والعقل جميعًا كوسائل للمعرفة، ويعتمد كل المصادر المعرفيَّة سواءً البصرية كالكون المشاهد، أو السمعيَّة كالوحي المنزَّل على نبي الإسلام، وهو لا يفتأ ينبه العقول ويدعو إلى إعمالها في كل تلك المصادر ليتبيَّن الحقّ وتظهر الحقيقة.
ونصوص الدين الإسلامي مليئَةٌ بالأدلة العقلية الرصينة القويَّة المقنعة والواضحة والموجزة في آن، مما يجعلها مكتفية بذاتها في الاستدلال العقلي، ومستغنية عن غيرها من الأديان والأفكار في هذا الباب، وهذا يكمن في اتصافها واختصاصها بسِمات لم تكن لغيرها من الأدلة العقلية، وهنا نسرد أهم تلك السِّمات:
1– إلهية المصدر:
كثيرة تلك المحاولات للإنسان الشغوف بالإبداع والتجديد أن يأتي بأدلة عقلية برهانية، ولكن مهمَا حاول ذلك فإنه سيبقى محصورًا في حدوده الزمَانية والمكانية، ومتأثرًا بظروفه وبيئته، ومتطبِّعًا بألفاظه ولغته وأفكاره، ولكن الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة أدلةٌ متعالية على كل زمان ومكان، وعلى كل بيئة ومحيط، ومتناسبة مع كل الظروف والأحوال، ليس لشيء إلا لأنها منزَّلة من عند الله ربِّ الأكوان وخالق الزمان والمكان، وخالق الإنسان وعقل الإنسان، فالله سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فأنَّى يكون للأدلة العَقليَّة التي أنزلها سبحانه وتعالى مِثلٌ أو ندٌّ أو نظير؟!! حاشا وكلا.
وإلى هذه السمة يرجع ديمومتها وحيويتها حتى زماننا هذا رغم مضيِّ أربعة عشر قرنًا من الأجيال والعقول.
بل من هذه السمة تنبثق كل السِّمات التي تليها.
2– متناسقة مع الفطرة البشرية:
خلَقَ الله الإنسان وفَطَره على ما يتلاءم مع الغاية التي خلق لها وهي العبادة، ثم أنزل إليه الكتب السماوية ومنها القرآن لتدلَّه بأدلته الخبرية والعَقليَّة على تلك الغاية، فلا غرو حينئذٍ أن تتواءم الأدلة العَقليَّة الشَّرعيَّة مع الفطرة الإنسانية؛ إذ مصدر الأمرين واحد، فالذي خلق العقل والإنسان هو الذي أنزل الأدلة العَقليَّة الشَّرعيَّة سبحانه وتعالى، فأنَّى يتناقض خلقه وأمره؟! قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1، 2]، وكيف لا تتواءم هذه الأدلة مع الفطرة وهي منزَّلة ممَّن {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 5، 6]؛ ولذا يرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى التمسُّك بكتابه مسائله ودلائله؛ لأنه موافقٌ لما فطرنَا عليه، يقول تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، وكثيرًا ما تُستدعى الفطرة في الاستدلال العقلي الشرعي؛ كالاستدلال على وجود الله تعالى بالمقدِّمات الفطرية أو الغرائز الفطرية كمبدأ السببية وغيرها([1]).
3– هاديةٌ إلى الحقِّ مرويةٌ للقلب:
تتجلَّى هذه السمة في الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة، خاصة إذا ما حدَّقنا النظر في الأدلة التي سمَّاها أهلها عقلية برهانية من المتكلمين وأذنابهم من المعاصرين العقلانيين، فكثير من تلك الأدلة تجلبُ القَسوة وتورثُ الغفلة، ولا تغني ولا تسمن العقل الإنساني المتعطش إلى المعرفة والعلم إلا نزرًا منه، وغالبًا ما تتركهم في بيداء تيهاء ما بين حيارى وندامى، وهذا ما اعترف به عمالقةُ الكلاميين في أواخر أعمارهم([2]).
فالأدلة العَقليَّة غير الشَّرعيَّة في حقيقة الأمر، إن لم تصدَّ المرء عن الحق والهدى؛ فإنها تُبعد طريقه وتوعِّره، وأما الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة فهي مرتبطة بالإيمان والخوف والعبادات القلبية برباطٍ غليظ، فهي تهدي الناظر فيها إلى طريق الحق وإلى الصراط المستقيم، وتجمع بين الحقيقة اليقينية والوجدانيات العاطفية، وهذا وجه من أوجه الإعجاز القرآني، فكلَّما ازداد المرءُ بها علمًا ازداد لله خشيةً، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 27، 28] ([3]).
فالأدلة الشَّرعيَّة العقليَّة تزرع فينا الطمأنينة والسكينة والارتياح، فهي {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]، تنير القلب، وتشرح الفؤاد، وتبصِّر الطريق، وتطمس الحيرة والشكوك، بل {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35]، “وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فأقوم الطرق إلى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله، وأما طريق الغير فهي مع ضلالهم في البعض واعوجاج طريقهم وطولها في البعض الأخرى إنما يوصلهم إلى أمر لا ينجى من عذاب الله، فضلًا عن أن يوجب لهم السعادة، فضلًا عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم”([4]).
تأمَّل هذه الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة وحلِّق بفؤادك في سماء الإيمان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة22 , 21]، وقال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة164]، وقال جلَّ من قائل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس32 , 31]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد4 ,3].
4– يقينية وبرهانية:
تمتاز الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة بكونها تمزج في خطابها اليقينيات مع الوجدانيات، وبتأثيرها على أهل الحسِّ المرهف وعلى أهل الحقائق والبراهين في آن، فهي تخاطب قوة التفكير في ذات الوقت الذي تخاطب فيه قوة الوجدان، وتلكم حاجتان من أهم حوائج النفس البشرية، يعسر على مهرَةِ البيان مزجُهما في مؤلفٍ واحد، وما هذا إلا صورةٌ من صور إعجاز القرآن الكريم؛ إذ هي قد بلغت الغاية في اليقينية والوجدانية معًا([5]).
فالأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة أدلةٌ يقينيةٌ قاطعةٌ لا ريب فيها ولا شك، وكيف لا تكون برهانية صادقة والله تعالى يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، أم كيف لا تكون يقينية حقة والله تعالى يقول عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].
وهذا الذي أخبر به المولى سبحانه هو ما وجده المتأملون في مبانيه، والباحثون في معانيه، كالقاضي عياض حين وصف جماليَّات القرآن وبراهينه وعدَّد وجوه إعجاز القرآن الكريم فقال: “ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها، ولا القيام بها، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجج العقليات، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية، وأدلة بينة سهلة الألفاظ، موجزة المقاصد، رام المتحذلقون بعد أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا عليها…”([6]).
وينقل لنا الإمام السيوطي رحمه الله تجارب السلف المتأملين والدارسين للأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة فيقول: “قال العلماء: قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير يبنى من كليات المعلومات العَقليَّة والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به”([7]).
وبرهانية الأدلة العَقليَّة الشَّرعيَّة كانت من أهم قضايا شيخ الإسلام ابن تيمية التي رسَّخها بطَود بَيانه، وناقش ونافح لتقريرها، ونثرها في كثيرٍ من كتبه، وردَّ على من نفى برهانية الأدلَّة الشرعيَّة، يقول رحمه الله: “والكتاب والسنة يدل بالإخبار تارة، ويدل بالتنبيه تارة، والإرشاد والبيان للأدلة العَقليَّة تارة، وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسنة، مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه، فكان فيما جاء به الرسول من الأدلة العَقليَّة والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين”([8]).
ويقول رحمه الله: “فإنه وإن كان يَظنّ طوائف من المتكلمين والمتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق، فدلالته موقوفة على العلم بصدق المخبر، ويجعلون ما يبنى عليه صدق المخبر معقولات محضة، فقد غلطوا في ذلك غلطًا عظيمًا؛ بل ضلوا ضلالًا مبينًا في ظنهم: أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد؛ بل الأمر ما عليه سلف الأمة وأئمتها – أهل العلم والإيمان – من أن الله سبحانه وتعالى بين من الأدلة العَقليَّة التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره. ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه”([9]).
بل وحتى من اغترَّ ببرهانيات اليونان، وقف أمام برهانيات الشرع وقفة انبهار واندهاش، يقول أبو الحسن الأشعري الذي إليه تُنسب الأشعرية: “ولعمري إن فيهما الشفاء من كل أمر مشكل، والبرء من كل داء معضل، وإن في حراستهما من الباطل على ما تقدم ذكرنا له آية لمن نصح نفسه، ودلالة لمن كان الحق قصده”([10]).
واسمع للغزالي -وهو مَن هو في المتكلمين- إذ يقول: “اعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي يُنتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بيانه، وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها وتطويل بنقل المقالات التي أكثرها ترَّهات وهذيانات، تزدريها الطباع، وتمجُّها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين…”([11]).
وهذا الذي قاله الغزالي هو ما سلَّم بمثله الرازي الشهير بأشعريته وفلسفته حيث قال بعد أن ذكر شيئًا من سمات الأدلة الشَّرعيَّة: “وإذا عرفت هذه الوجوه المقتضية لرجحان هذه الطريقة على سائر الطرق، فنقول: لما كان الأمر كذلك، كانت الكتب الإلهية مملوءة من هذا النوع من الدلائل لا سيما القرآن العظيم، وكذلك فإنك متى أوردت أنواعًا كثيرة من هذه الدلائل طابت القلوب، وخضعت النفوس، وأذعنت الأفكار للإقرار بوجود الإله الحكيم”([12]).
وهذا الذي ذكرناه من يقينية الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة هو البلسم الشافي واليقين المبين الذي عصَمَ السلف وأهل السنة من الحيرة والاضطراب، وهو من أجلِّ نعم الله التي يستحقُّ الشكر عليها، يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]؛ فقل لي بربِّك كيف يهنأ بالراحة من دام قلقه وازدادت حيرته كلَّما ازداد علمه؟!!
5- واقعية:
من سمات الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة التي تفرَّدت بها أن مقدّماتها واقعية قريبة المآخذ، وعناصرها معروفة لكلِّ أحد، فمع كونها في أعلى درجات القوة واليقينية فهي أيضًا مركَّبة من أسهل المعارف الواقعية؛ إذ هي تركِّب مقدِّماتها ممَّا يعايشه الناس في حياتهم، وغالب عناصرها ملموسة لهم في معيشتهم، وهذا أجدى وأنفع للبشر، وأقرب سبيلًا في الوصول إلى النتائج، وأكثر انقداحًا في أذهان الناس وفهومهم، بل لا يكَاد ينظرُ المتأمِّل فيها إلا استوعبها، وهو ما تجده في أيِّ دليلٍ من الأدلَّة الشرعية طالعتَ؛ فتارة تجده يمثِّل بالليل وتارة بالنهار، وتارة بالسماء وتارة بالأرض، وتارة بالجبال وتارة بالنجوم، وتارة بالنكاح وتارة بالحدائق والزروع؛ ولذا كلما قرأت آيات القرآن وأدلته تجده يداخل خلجات قلبك، ويلامس واقعك، كأنه غضٌّ طريٌ للتو نزل من أجلك، فاقرأ قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) } [الروم: 20 – 24]، وقوله تعالى: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 – 20]، ليس هذا فحسب بل حتى أنفُسَنا يضرِب الله بها المَثَل ويبني عليها الأدلة يقول تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21]، وفي هذا يقول الشاعر:
وإذا نظرت تريد معتَبَرًا فانظر إليك ففيك معتَبَرُ([13])
هذا عن أدلَّة الشرع، وأما إذا نظرنا إلى غيرها كالأدلَّة الفلسفية التي يصمُها أهلها بالعَقليَّة أو العقلانية، فهي أبعد ما تكون عن الواقعيَّة وأقربُ ما تكون إلى الألغاز والأحاجي، وهو ما نفَّر الناس عنها، وقلَّل من قيمتها لوعورة فهمها فضلًا عن تطبيقها أو الاستفادة منها، وبذا علَّل الإمام السيوطي رحمه الله عدم إيراد الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة بطرق المتكلمين الوعرة العسيرة فقال: “المائل إلى طريق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام؛ فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزا، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجلى صورة؛ ليفهم العامة من جليلها ما يقنعهم وتلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يربى على ما أدركه فهم الخطباء”([14]).
6– مستلزمةٌ لمدلولها في الأذهان:
أهمُّ سمة في الدليل الشرعي العقلي بل جوهره ومغزاه هو كونه موصلًا إلى المدلول بأقصر الطُّرق وأسرع الوسائل، فالغاية من الدليل هو بيان العلم وبيان الطرق المؤدية إليه والأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة تتسم بالدلالة المباشرة على مدلولاتها واستلزامها بمجرَّد تصورها؛ كاستلزام وجود إنسان عند سماع صوته من خلف الجدار، واستلزام وجود النار حين رؤية الدخان وهكذا، وهذا الاستلزام قد يكون فطريًّا كما في دليل السببية الذي يكثر استعماله في نصوص الشرع([15])، وأشهر ما استُعمل في الدلالة على وجود الخالق سبحانه وتعالى بوجود مخلوقاته؛ كالسموات والأرض والشمس والقمر، يقول تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61].
وخلوُّ الأدلة العَقليَّة غير الشَّرعيَّة كالأدلَّة الفلسفية من هذه السِّمة هو ما أضعفها وهوَّن من شأنها، بل وأخلاها من الفائدة العلمية، ووعَّر السبيل أمام طلَّاب الحق، ومن يسلك تلك السبُل لطلب الحق فهو “بمنزلة من قيل له: أين أذُنُك؟ فرفع يده فوق رأسه رفعًا شديدًا ثم أدَارها إلى أذنِه اليسرى، وقد كان يمكنه الإشارةَ إلى اليمنى أو اليسرى من طريق مستقيم”([16]).
7- سهلة وواضحة:
من استوعب السِّمات السابقة من واقعيةٍ وقوةِ تلازمٍ بين الدليل والمدلول علِمَ أن الوضوح والسهولة من أهمِّ سمات أدلة الشرع العَقليَّة، فهي سهلةُ الفهم قريبةُ المعاني مترابطة المقدمات والنتائج، يفهمها كل عاقلٍ قلَّ علمه أم كثر، وتتناول كل ذهن قوي فهمه أم ضعف.
وذلك أن المقصود من هذه الأدلة الشَّرعيَّة الهدايةُ والإرشادُ إلى الحقِّ والعلم، لا مجرَّد إشغال الأذهان وإعمال الأفكار أو تسويد الصفحات، بل هي أدلةُ هدًى ورشاد موصلةٌ إلى الحق والإيمان منيرةٌ طريق اليقينِ والاطمئنان؛ ولهذا افتتح الله سبحانه وتعالى كتابه بقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
فخذ مثلًا واقرأ قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37]، فهل يُتصوَّر أن أحدًا من البشر لا يعرفُ الليل أو النهار أو الشمس أو القمر؟!
وكل عاقل يفهم من هذا السِّياق أن هذه المخلوقات لا بد لها من موجد وأنها تحثُّ على البحث عن موجدها، ولا شكَّ تدلُّ على خالقٍ أوجدها…([17]).
وهذا ما وجده القاضي عياض حين تفحَّص الحجج والبراهين الشرعية حيث قال عن أدلَّة القرآن: “جمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجج العقليات، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية، وأدلة بينة سهلة الألفاظ موجزة المقاصد…”([18]).
ولما كانت هذه السمة (السهولة والوضوح) مفقودةً في عامَّة ما يسمَّى بـ(الأدلة العَقليَّة) غير أدلة الشرع انحسرت تلك الأدلة، وتُركَت في بواطن الكتب، ولم تضِف جديدًا في عالم المعرفة والعلم، بل غالبًا ما كانت على العكس عقبةً كؤودًا في سبيل العلم والمعرفة([19]).
8– مؤثِّرة ومقنعة:
من أهم السِّمات التي يُحتاج إليها في الأدلة؛ التأثير والإقناع على من يُستدلُّ عليهم ويحاجُّون به، والقرآن قد نال حظَّه وافرًا من هذا السِّمة، فهي تختصُّ بقوَّة التأثير وقوة الإقناع على كلِّ من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وكيف لا يكون كلام الله تعالى بهذه الصِّفة وقائِله هو العليم الخبير الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، كيف لا والله وصَفه سبحانه بقوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 52]، وقال: { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]، وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
هذا فيما أخبرنا الله تعالى به، وأما عن تأثير الأدلة الشرعية العقلية في الواقع والمشاهد، فيكفي أنها غيرت مجرى التاريخ ومعالم الحضارات والأمم في فترة وجيزة، ولنقصَّ عليك شيئًا من قصص القوم الذين تأثَّروا بأدلة الشرع العقلية وأذعنوا له بمجرَّد سماعهم:
الأول: قصَّة إبراهيم مع النمرود، فقد كابَر هذا الطاغية، وغرَّ الناس بقتله لهم، وادَّعى بأنه هو الذي يملك الإحياء والإماتة والتصرُّف في الكون، فأعرض إبراهيم عن هذه المسألة، وأتاه بمسألة أظهر وأبين في التصرُّف في الكون، ألا وهي طلوع الشمس من المشرق، وقال له إن كنت حقًّا تملك التصرُّف في الكون فـأت بالشمس من المغرب، فأُسكت الطاغية بهذه الحجة ولم يَحِرْ جوابًا، وهذا ما قصَّه الله تعالى علينا بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]([20]).
والثاني: قصة إسلام الحصين والد عمران رضي الله عنهما وذلك أن قريش حرَّضت الحصين أن يجادل النبي صلى الله عليه وسلم ففعل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا حصين كم تعبد من إله؟» قال: سبعًا في الأرض، وواحدًا في السماء، فقال: «فإذا أصابك الضر من تدعو؟» قال: الذي في السماء، قال: «فإذا هلك المال من تدعو؟» قال: الذي في السماء، قال: «فيستجيب لك وحده وتشركهم معه! أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟» قال: ولا واحدة من هاتين، فلم يقم حتى أسلم([21]).
ومن برامج اليوتيوب المتميِّزة التي بيَّنت هذا الأثر سلسلة (بالقرآن اهتديت) للشيخ فهد الكندري جزاه الله خيرًا([22]).
9- مختصرة وموجزة:
إيصال المعاني المرادة بأقلِّ قدر ممكن من الكلام دون إخلال في المعنى هو مِن أشرف العلوم والمهارات، وهذا ما يسمِّيه أهل البلاغة بالإيجاز والاختصار، وهذه سمةٌ من سمات الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة، فغالبًا ما تقصُر ألفاظها على جوامع الكلم، وتحذف من الكلام ما كان حشوًا يُعلم مضمونه بحذفه، ولا ترهِق نفسها بذكر لوازم الكلام الفطرية الواضحة، وهذا هو مقتضى الفصاحة وبلوغ الشأو في البيان، وهل من بيان أكمل من البيان الإلهي؟!
وبالمثال يتَّضح المقال:
لنأخذ مثلًا بعض الأدلة العقلية التي يمكن الاحتجاج بها على اليهود وإلزامهم بالتسليم بالقرآن:
1- أنكم تقرُّون بكتابكم المقدَّس؛ لأنه نزل من عند الله، والقرآن كذلك نزل من عند الله، فلم تفرِّقون بين المتماثلات؟!!
2- أنكم تدَّعون الإيمان بكتابكم المقدَّس، وهي تأمر أيضًا بالإيمان بالقرآن، وتذكر أوصافه وأوصاف النبي الذي جاء به عليه الصلاة والسلام، فلم تنكرونه؟!!
3- أنكم تكفرون بالقرآن بمجرد دعوى أنها لم تنزِل على بني جلدتكم وهو عذرٌ أقبح من ذنب.
4- أن القرآن مصدِّق لكلِّ الكتب الإلهية التي سبقته، وللكتاب المقدَّس الذي معهم، وهذا من أقوى الحجج للتصديق به.
5- ليس هذه المرَّة الأولى التي تكفروا فيها بما أنزل الله، بل قد كفرتم من قبل بالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى!
6- داء الجحود والكبر في الحقيقة هما المانعان لكما من الإيمان، وأكبر شاهد على ذلك أنكم لم تؤمنوا حتى بكتابكم المقدَّس، فقد قتلتم الأنبياء الذين جاؤوا به، فهل هذا هو الإيمان الذي تدَّعون؟!
قد أوجز الله كل هذه الحجج في عبارة مختصرة حيث يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91].
10– متنوِّعة ومتضافرة:
تتفوَّق الأدلة الشَّرعيَّة العَقليَّة على غيرها بكونها أدلةً متنوِّعة؛ إذ هي لا تستدلُّ ولا تهتمُّ إلا بالقضايا العظيمة المهمَّة، وكلَّما كان الأمر أعظم وأهمَّ كلَّما كثرت أسماءه وتنوَّعت أدلته وذاعت أوصافه، وإلى جانب هذا التنوُّع في الأدلة فإنها في الوقت نفسه متضافرة يقوِّي بعضها بعضًا، لا متنافرة ينقض بعضها بعضًا، وهذا التنوُّع والتضافر هو ما أخبر عنه ربنا جل وعلا بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
فالآفاق والأقطار بدءًا بالسماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والنبات والأشجار والأنهار كلُّها آيات وأدلةٌ عليه سبحانه، بل هي بعض الأدلة، فإن الإنسان نفسه آية من آيات الله في لطيف صنعته وبديع حكمته، هذا جانب من جوانب الأدلَّة، ومن جانب آخر فإن الله أودع الدلائل الكافية في وحيِه المبين {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]([23]).
وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدًّا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة، وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس، وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره أو من أعرض عن غيره”([24]).
وهذا التنوُّع في الدلائل متناغم مع تنوُّع الوسائل المعرفيَّة الإنسانية كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، فبالسمع تُعقَل دلائل الله سبحانه في أقواله، وبالبصر تُعقَل دلائل الله في أفعاله، والعقل يجمع كل تلك المعطيات السمعية والبصرية ويرى التوافق بينها وبين الفطرة التي فُطر عليها الإنسان، فيتبيَّن له الحق([25]) .
والتنوُّع والتضافر في الأدلَّة الشَّرعيَّة العَقليَّة يظهر في كثير من القضايا؛ كإثبات وجود الله وربوبيته وألوهيته، وإثبات أسمائه وصفاته، وكذلك دلائل النبوة، وأدلة صدق القرآن، وأدلة اليوم الآخر، وأدلة تكامل الدين الإسلامي.
ولنمثِّل بواحد من هذه الأمثلة، وليكن دلائل كون القرآن كلام الله:
فالأدلَّة على أن القرآن كلام الله متنوِّعة وكثيرة، ومنها:
1- القرآن نفسه يشهد بأنه نازل من عند الله سبحانه وتعالى، يقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 192 – 196].
2- أحوال النبي صلى الله عليه وسلَّم الذي جاءنا بهذا القرآن وسيرته تدل على ذلك، فلم يكن في نفسه يملك الوسائل العلمية التي تمكُّنه من تأليف مثله، ولم يكن في مكة من هو في هذه الرتبة العلمية ليعلِّمه إياه، فهو إذن من عند الله.
3- أحوال النبي صلى الله عليه وسلَّم عند نزول الوحي عليه أيضًا شواهد على أنه منزَّلٌ من عند الله.
4- عَجْز الثقلين عن أن يأتوا بمثله مذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم حتى اليوم أكبرُ شاهد، فلم ولن يأتوا بمثله مع قيام التحدّي، وأنَّى يستطيعوا ذلك والله يقول: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
5- تحقق وعد الله بحفظ القرآن، ففي أيِّ قرآن فتَّشت وقلَّبت النظر في أرجاء المعمورة لم تَحظ باختلافٍ أو تناقضٍ ولله الحمد.
6- الإعجاز الأسلوبي في القرآن من أدقِّ الأدلة على كونه من عند الله.
7- الإعجاز البياني في القرآن كذلك أيضًا، فمعاني القرآن المتنوعة والمسبوكة في كتاب واحد مما يدل على كونه من العليم الخبير.
8- دقائق العلوم والكشوف التجريبية التي يكتشفها البشر على مرِّ العصور والتي حررها القرآن في كتابه من قبل؛ كعلم الأجنة.
9- أثر القرآن على المجتمعات والشعوب التي تبنَّته، وعلى تاريخ العالم حقيق أن يتفكَّر فيه الإنسان ويعتبر.
10- أثر القرآن على كثير من الأفراد حتى في حالات الضعف الإسلامي، كما سمعنا بذلك كثيرًا([26]).
وتلك عشرة كاملة، إلا أن دلائل القرآن لا تقف عند هذا الحد([27]).
الخاتـمة
وفي ختام ذكر هذه السِّمات دعونا نستعرض تلخيص الإمام ابن القيم رحمه الله لها حيث يقول: “هذا وإن القرآن وحده لمن جعل الله له نورا أعظم آية ودليل وبرهان على هذه المطالب، وليس في الأدلة أقوى ولا أظهر ولا أصح دلالة منه، من وجوه متعددة جدًّا، كيف وقد أرشد ذوي العقول والألباب فيه إلى أدلة هي للعقل مثل ضوء الشمس للبصر، لا يلحقها إشكال، ولا يغير في وجه دلالتها إجمال، ولا يعارضها تجويز واحتمال، تلج الأسماع بلا استئذان، وتحل من العقول محل الماء الزلال من الصادي الظمآن، فضلها على أدلة أهل العقول والكلام كفضل الله على الأنام، لا يمكن أحدًا أن يقدح فيها قدحًا يوقع في اللبس، إلا إن أمكنه أن يقدح بالظهيرة صحوًا في طلوع الشمس، ومن عجيب شأنها أنها تستلزم المدلول استلزامًا بينًا، وتنبه على جواب المعترض تنبيهًا لطيفًا، ففيها إقامة الدلالة، والجواب عن المعارضة والشبهة، وهذا الأمر إنما هو لمن نوَّر الله بصيرته، وفتح عين قلبه لأدلة القرآن، وآتاه فهمًا في كتابه، فلا يعجب من منكر أو معترض أو معارض”([28]).
وقال رحمه الله: “والله سبحانه حاج عباده على ألسن رسله وأنبيائه فيما أراد تقريرهم به وإلزامهم إياه بأقرب الطرق إلى العقل، وأسهلها تناولًا، وأقلها تكلفًا، وأعظمها غناء ونفعًا، وأجلها ثمرة وفائدة، فحُججه سبحانه العَقليَّة التي بينها في كتابه جمعت بين كونها عقلية سمعية، ظاهرة واضحة، قليلة المقدمات، سهلة الفهم، قريبة التناول، قاطعة للشكوك والشُبَه، ملزمة للمعاند والجاحد، ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخ، ولعموم الخلق أنفع.
وإذا تتبع المتتبع ما في كتاب الله مما حاج به عباده في إقامة التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات المعاد، وحشر الأجساد، وطرق إثبات علمه بكل خفي وظاهر، وعموم قدرته ومشيئته، وتفرده بالملك والتدبير، وأنه لا يستحق العبادة سواه= وجد الأمر في ذلك على ما ذكرناه من تصرف المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجل وجوه الحجاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمة للعقول، وأبعدها من الشكوك والشُّبَه، في أوجز لفظ وأبينه وأعذبه وأحسنه وأرشقه وأَدلِّه على المراد”([29]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
([1]) ينظر: مقالات الأدلة الفطرية على وجود الله الصادرة عن مركز سلف للبحوث والداراسات؛ كالمقدمات الأولية http://salafcenter.org/522/ ، والغرائز http://salafcenter.org/639/ ، والنزعة الأخلاقية http://salafcenter.org/548/ ، والإرادة الغائية http://salafcenter.org/647/ ، والإرادة الحرة http://salafcenter.org/683/ .
([2]) ينظر: نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني (ص3)، درء تعارض العقل والنقل (3/212 وما بعدها).
([3]) ينظر: النبأ العظيم د. محمد عبد الله دراز (ص: 148).
([4]) الرد على المنطقيين لابن تيمية، بتصرف يسير (ص: 162).
([5]) ينظر: النبأ العظيم، د. محمد عبد الله دراز (ص: 148).
([6]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (1/ 276).
([7]) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (4/ 60).
([8]) منهاج السنة النبوية (2/ 110).
([9]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 296).
([10]) رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري (ص: 115).
([11]) إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 22).
([12]) المطالب العالية، للرازي (1/216).
([13]) نقلًا عن تفسير ابن كثير (7/ 187).
([14]) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (4/ 60).
([15]) الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص: 248).
([16]) الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص: 162).
([17]) وللاستزادة ينظر: مقال دليل الخلق والاختراع الصادر عن مركز سلف للبحوث والدراسات.
([18]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (1/ 276).
([19]) ينظر: الفتاوى، لابن تيمية (2/740).
([20]) ينظر: تفسير الطبري (5/ 433).
([21]) ينظر: سنن الترمذي (5/ 397) حديث رقم (3483).
([22]) ينظر: https://www.youtube.com/watch?v=lYz_RcErZP4 .
([23]) ينظر: تفسير القرطبي (15/ 374 وما بعدها).
([24]) ينظر: الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص: 256).
([25]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (14/186).
([26]) وقد أشرنا سابقًا لبرنامج الشيخ فهد الكندري بالقرآن اهتديت فلينظر: https://www.youtube.com/watch?v=lYz_RcErZP4 .
([26]) وللاستزادة في هذا الموضوع راجع كتاب النبأ العظيم للدكتور هذا الأثر باسم (بالقرآن اهتديت) ينظر: https://www.youtube.com/watch?v=lYz_RcErZP4 .
([27]) وللاستزادة في هذا الموضوع راجع كتاب النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز، فهو قيِّم مفيد.
[28]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم (3/ 1199).
([29]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم (2/ 458).