مناظرة ابن عباس للخوارج – مدارسة واعتبار
لقد سبقت أمَّةُ الإسلامِ الأممَ كافَّة في كيفيَّة التعامُل مع المخالفين، وضرب لنا صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أروعَ الأمثلة في هذا المجال؛ ومن ذلك ما فعله ابن عباس -رضي الله عنهما- مع الخوارج الذين ناصبوا الصحابةَ العداء، بل وكفَّروهم وحاربوهم؛ حيث ناظرَهم ابن عباس بالحُسنى، وناقش أفكارَهم بهدوءٍ وتروٍّ؛ فرجع كثيرٌ منهم عنِ اعتقادهمُ الباطلِ، وزال ما تشَرَّبته قلوبهم من شبهاتٍ. وفي مدارسة تلك المواقفِ إيضاحٌ للمحجَّة، وإقامةٌ للحجَّة، وبيان للسبيل، والله تعالى من وراء القصد.
فتنة الخوارج:
لقد كانت فتنة الخوارجِ هي أول فتنةٍ وقعت بين المسلمين؛ فإنه لما اتفق عليٌّ ومعاوية -رضي الله عنهما- بعد صِفِّين على التحكيم؛ أنكرت الخوارجُ على علي بن أبي طالب ذلك، وقالوا: “لا حكمَ إلا لله”، فرد عليهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بقوله: “كلمةُ حقٍّ أُريدَ بها باطل”([1])، وأرسل إليهم عبدَ الله بنَ عباس -رضي الله عنهما- فناظرهم وأقام الحجةَ عليهم، وتفصيل ذلك فيما يلي؛ يعقبُه أهمُّ الدروس والعبر.
نصُّ المناظرة:
يقول عبدُ الله بن عبّاس -رضي الله عنهما-: لما خرجتِ الحَرورية([2]) اعتزلوا في دار، وكانوا ستةَ آلاف، فقلتُ لعلي: يا أميرَ المؤمنين، أبرد بالصلاة([3])؛ لعلي أكلِّم هؤلاء القومَ.
قال: إني أخافهم عليك([4]).
قلتُ: كلا.
فلبستُ، وترجَّلت، ودخلتُ عليهم في دارٍ نصفَ النهار وهم يأكلون.
فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما جاء بك؟
قلتُ لهم: أتيتُكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -المهاجرين والأنصار-، ومن عند ابن عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم وصِهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ؛ لأبلّغَكم ما يقولون، وأبلِّغَهم ما تقولون.
فانتحى لي نفرٌ منهم([5]).
قلتُ: هاتوا ما نقِمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمِّه.
قالوا: ثلاث.
قلتُ: ما هنَّ؟
قالوا: أمَّا إحداهن فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]؛ ما شأن الرجال والحكم؟!
قلتُ: هذه واحدة.
قالوا: وأما الثانية فإنه قاتلٌ ولم يسبِ ولم يغنم؛ إن كانوا كفارًا لقد حلَّ سباهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ سباهم ولا قتالهم.
قلتُ: هذه ثنتان، فما الثالثة؟
وذكر كلمةً معناها قالوا: محا نفسَه من أمير المؤمنين؛ فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شيءٌ غير هذا؟
قالوا: حسبُنا هذا.
قلتُ لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله -جل ثناؤه- وسنَّة نبيه ما يردُّ قولَكم أترجعون؟
قالوا: نعم.
قلت: أما قولكم: “حكَّم الرجالَ في أمر الله” فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر الله حكمَه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله -تبارك وتعالى- أن يحكّموا فيه؛ أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وكان من حكم الله أنه صيَّره إلى الرجال يحكمون فيه، ولو شاء لحكم فيه، فجاز من حكم الرجال. أنشدكم بالله، أحكم الرجال في صلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟
قالوا: بلى، هذا أفضل.
وفي المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]. فنشدتكم بالله، حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟
خرجتُ من هذه؟
قالوا: نعم.
قلتُ: وأما قولكم: “قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم” أفتَسْبونَ أمَّكم عائشة، تستحلّون منها ما تستحلّون من غيرها وهي أمُّكم؟! فإن قلتم: إنا نستحلّ منها ما نستحلُّ من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج.
أفخرجتُ من هذه؟
قالوا: نعم.
وأما “محا نفسه من أمير المؤمنين” فأنا آتيكم بما ترضَون: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعلي: «اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله»، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امح يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله». والله، لرسول الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن مَحْوُه نفسَه ذلك محاه من النبوة.
أخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقُتلوا على ضلالتهم، فقتلهم المهاجرون والأنصار([6]).
أهم الدروس والعبر المستخلصة من المناظرة:
1- الاهتمام باختيار الرجل المناسب للمهمَّة المرسَل إليها؛ ومن أمثالهم السائرة في الناس: “أرسل حكيمًا ولا توصِه”، يقول أبو عبيد: “إنَّ عقلَه وأدبَه يغنيك عن وصايته بعد أن يعرف الحاجة”([7]).
فقد كان ابن عباس -رضي الله عنهما- هو الرجل المناسب لتلك المهمة؛ لما تميز به من غزارة العلم، وحسن الفهم؛ فهو ترجمان القرآن، والمدعو له بفهم التأويل.
2- وفي الأثر دليل صريح على أنه لم يكن في الخوارج أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- يقول ابن عباس: “وليس فيكم منهم أحد”، وهذا نصّ واضح صريح على براءة الصحابة من تلك الفرقة الضالة.
3- ويستفاد من هذا الأثر: أن الأصل في وقوع الخوارج في هذه البدعة مبنيٌّ على أمرين:
الأول: اعتقادهم أن فعل الصحابة مخالف للقرآن الكريم.
والثاني: اعتقادهم كفر من خالف القرآن مطلقًا، لا فرق بين المخطئ والمتعمّد، ولا بين من ارتكب ذنبًا وهو معتقد للوجوب أو التحريم، ومن ارتكب ذنبًا وهو غير معتقد للوجوب أو التحريم([8]).
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “لكن خرجوا [يعني: الخوارج] عن السنة والجماعة، فهم لا يرون اتباعَ السنة التي يظنون أنها تخالف القرآن: كالرجم، ونصاب السرقة، وغير ذلك، فضلّوا؛ فإن الرسول أعلم بما أنزل الله عليه، والله قد أنزل عليه الكتاب والحكمة، وجوَّزوا على النبي أن يكون ظالـمًا؛ فلم ينفذوا لحكم النبي، ولا لحكم الأئمة بعده، بل قالوا: إن عثمان وعليًّا ومن والاهما قد حكموا بغير ما أنزل الله، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فكفَّروا المسلمين بهذا وبغيره([9])، وتكفيرهم وتكفير سائر أهل البدع مبني على مقدمتين باطلتين:
إحداهما: أن هذا يخالف القرآن.
والثانية: أن من خالف القرآن يكفر، ولو كان مخطئًا، أو مذنبًا معتقدًا للوجوب والتحريم”([10]).
4- وفيه: تطبيق عملي لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]؛ فإن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- والصحابة لم يبادروا إلى قتال الخوارج حتى أقاموا عليهم الحجة، وأزالوا ما علق بأذهانهم من شبهات؛ ولهذا ترجم الإمام البخاري في صحيحه: “باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم”([11])، وقد يُعرض الدليل على المخالف فيرجع إلى الحقِّ، ويدع ما وقع فيه من المخالفة.
5- استعمل ابن عباس في إقامة الحجة على الخوارج أحسنَ القياس وأوضحه([12])، فنجده يرد على الشبهة الأولى -تحكيم الرجال في دين الله تعالى- بانتزاع الآيات الدالة على التحكيم في قتل المحرم للصيد، والإصلاح بين الزوجين.
كما نراه يدفع الشبهة الثانية -قاتل ولم يسبِ ولم يغنم- بأقصر سبيل؛ حيث ضرب لهم المثل بأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، والقسمة العقلية لا تخرج عن أحد الأمرين؛ كلاهما كفر بالله العظيم: إما أن يستحلّوا منها ما يستحلّون من غيرها، وإما أن ينكروا أنها أم المؤمنين ويخالفوا الكتاب.
وفي جواب ابن عباس عن الشبهة الثالثة -محا عليٌّ نفسه من أمير المؤمنين- ومفادها: ما جاء في كتاب الصلح بين علي ومعاوية: كتب عليٌّ: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، فقال عمرو بن العاص: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وليس بأميرنا، فقال الأحنف: لا تكتب إلا أمير المؤمنين، فقال علي: امح: أمير المؤمنين، واكتب: هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب”([13]).
فاستشهد ابن عباس بقصة الحديبية؛ مستعملًا قياس الأولى في قوله: “والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن مَحْوُه نفسَه ذلك محاه من النبوة”.
وما إن أتمّ ابن عباس الحجة عليهم، إذا بنصف الخوارج يرجعون إلى الحق، ويعودون مع ابن عباس، وأما الآخرون فأغاروا على أموال الناس واستحلّوا دماءهم، حتى قتلوا ابن خبّاب، وقالوا: كلُّنا قتله، حينئذٍ قاتلهم علي بن أبي طالب، واستأصل شأفتهم([14]).
ألا فما أحرانا أن نسلك سبيل من سلف قولًا وعملًا واعتقادًا؛ فقد حذرنا الله تعالى من مخالفة سبيلهم؛ فقال سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]؛ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (1066) عن عبيد الله بن رافع رضي الله عنه.
([2]) الحرورية: نسبة إلى حروراء؛ قرية من قرى الكوفة، وهي أوّل مكان اجتمع فيه الخوارج، فنسبوا إليها. ينظر: إرشاد الساري للقسطلاني (3/ 222-223).
([3]) يعني: أخر صلاة الظهر؛ لأتمكن من إدراكها معكم في جماعة.
([4]) أي: خاف أن يصيبوه بأذى، أو يقتلوه.
([5]) أي: قصد ابنَ عباس نفرٌ من الخوارج، وعرضوا له. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (5/ 30).
([6]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (8522)، والحاكم في المستدرك (7368)، والبيهقي (8/ 309)، وصحح ابن تيمية إسناده في منهاج السنة (8/ 530)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 241): “رواه الطبراني، وأحمد ببعضه، ورجالهما رجال الصحيح”.
([8]) في هذه القضية تفصيل تجده في مقالة لي بعنوان: “قاعدة: لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلَّه- بيانٌ ودفع شبهة”، وهذا رابطها في مركز سلف:
([9]) في مركز سلف مقالة بعنوان: “موقف السلف من التكفير”، ودونك رابطها:
([10]) مجموع الفتاوى (13/ 208-209).
([12]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (1/ 164).