الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ووقفات مع حرق كتاب “تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان”
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
لا يفتأ المناوئون لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من إظهارها بمظهر التقبيح في أعين المسلمين، وإبراز مخالب التَّشديد في الأحكام والمعتقدات، وبين أيدينا صورة من صور التمثيل لذلك، وهي: فتوى بحرق كتاب “تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمَان”.
ولمناقشة من ينشر هذه الفتوى ويروِّج لها لا بد من الوقوف على أهداف المناوئين التي دعت إلى نشرها، ومنها:
1- إظهار منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في التعامل مع كتب المخالفين، وأنهم لا يقبلون مناقشة الحجة بالحجة، وإنما يقابلونها بالمصادرة والحرق والإتلاف.
2- إسقاط بعض الرموز المهمة من أئمة الدعوة، وإظهارهم بمظهر التَّشدُّد غير المبرر؛ حتى لا يستفيد الناس من علمهم.
3- بيان أن هذا الكتاب لا يستحقّ كلَّ هذا الحكم، وليس فيه ما يدعو إلى ذلك، بل لا يعدو أن يكون كتابًا تاريخيًّا محضًا.
وللجواب عن ذلك نقول -وبالله التوفيق-:
أما إظهار منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه تجاه كتب المخالفين وأنهم أعملوا الحرق فيها فقد رددنا على هذه الشبهة في الورقة العلمية الأولى، وهي بعنوان: “حرق كتب المخالفين عند أئمة الدعوة في نجد.. تحقيق وتوجيه”([1])، وبيَّنَّا منهج الشيخ في استفادته من الكتب التي حوت معتقدات مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وكيف تعامل معها.
وكذا بينّا في الورقة العلمية الثانية -والتي هي بعنوان: “حرق المكتبة العربية في مكة المكرمة بين الحقيقة والأسطورة”([2])– كذبَ من ادعى أن الوهابية قاموا بحرق المكتبة العربية في مكة المكرمة، وأثبتنا أن هذه القصة ليس لها زمام ولا خطام، وإنما هي رواية من نسج الخيال.
وفي هذه الورقة العلمية الثالثة والأخيرة المتعلقة بحرق الكتب سنتعرض لفتوى حرق كتاب “تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان”، ولنا معها عدة وقفات، ننتهز الفرصة من خلالها لبيان مواقف الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ([3]) المشرفة المتعلقة بالكتب، وإبراز جهوده وحرصه عليها، واستفادته وإفادته منها، والإشراف على طباعتها؛ لإعلاء مكانته في الأمة، خلاف ما يريده ناشرو هذه الفتوى، ثم نناقش الفتوى الصادرة بخصوص الكتاب المذكور.
الوقفات الأربع المتعلقة بالموضوع:
الوقفة الأولى: تعامل الشيخ محمد بن إبراهيم مع الكتب ومدى استفادته منها.
الوقفة الثانية: بيان منهج الشيخ في الأحكام القضائية المتعلقة بالكتب المخالفة، واطراد منهجه.
الوقفة الثالثة: تحقيق ما جاء في كتاب “تحفة الأعيان” بخصوص ما يتعلق بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الوقفة الرابعة: إتلاف كتاب “تحفة الأعيان” بناء على فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم.
ونرجو من الله المعونة في تبيان الحق، والدفاع عنه، وإظهار الصورة الكاملة لحيثيات هذه المسألة، وما يتعلق بها.
الوقفة الأولى: تعامل الشيخ محمد بن إبراهيم مع الكتب ومدى استفادته منها:
من عرف منهج الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وكيفيَّة تعامله مع الكتب عرف مدى احترامه للعلماء، ولنتاجهم العلمي، فقد نشأ الشيخ وترعرع على مؤلَّفات أهل العلم من شتى المذاهب، ولم يكن عازفًا عن استقاء العلم والنهل من معينهم، وهذا ما تجلَّى واضحًا في الكتب التي كان يقوم بتدريسها.
فكان يبدأ بعد صلاة الفجر بتدريس ألفية ابن مالك مع شرح ابن عقيل، وزاد المستقنع مع شرحه الروض المربع، وبلوغ المرام، وهذه الدروس الثلاثة كانت مستمرة، وأما باقي الكتب فكانت على فترات مختلفة طيلة أيام الأسبوع، وهي: الآجرومية، والملحة، وقطر الندى، وعمدة الأحكام، وأصول الأحكام، والحموية، والتدمرية، ونخبة الفكر.
وبعد شروق الشمس يدرِّس في العقائد: كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، وثلاثة الأصول، والعقيدة الواسطية -باستمرار-، ومسائل التوحيد، ولمعة الاعتقاد، وأصول الإيمان -على فترات-، وفي الحديث: الأربعين النووية، وعمدة الأحكام -باستمرار-، وفي الفقه: آداب المشي إلى الصلاة، وقد يدرس غيرها لكنه نادر.
بعد الانتهاء من هذه المختصرات تقرأُ المطولات ومنها: فتح المجيد، وشرح الطحاوية، وشرح الأَربعين النووية، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، والسنن الأَربعة، ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير بدون استثناء، وكل ما جد من كتب السلف والمحققين من العلماء، ولكنها على فترات، يتراوح ما يقرأُ منها في اليوم ما بين خمسة وعشرة غالبًا.
وبعد صلاة الظهر يدرِّس: زاد المستقنع بشرحه الروض المربع، وبلوغ المرام.
وبعد صلاة العصر: كتاب التوحيد وشرحه، وقد يقرأ في مسند الإمام أحمد، أو مسند ابن أبي شيبة، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ونحوها.
فإذا بقي على أذان المغرب مقدار نصف ساعة خرج إلى داره، فإذا أذن المغرب جاء وصلى بالناس، ثم جلس في المسجد للطلبة، يقرؤون عليه علم الفرائض والمواريث، فإذا ختم وأذن للعشاء قام من حلقة درس الفرائض إلى الصف الأول وتنفل، ثم أمر القارئ فشرع يقرأ عليه في تفسير ابن كثير إلى الساعة الثانية والنصف بالتوقيت الغروبي، فيأمر بإقامة الصلاة للعشاء.
وقد استمر يزاول التدريس بنشاط لا يفتر وهمة لا تكل واحدًا وأربعين عامًا، من عام 1339هـ إلى عام 1380هـ حين أسندت إليه كبار الأعمال، وتعددت مسؤولياته، وكثرت مشاغله، فترك جميع الدروس ما عدا درس الفقه، وبلوغ المرام، فكان يجلس لهما بعد الفجر إلى أن حبسه المرض([4]).
فمن خلال هذا السرد للدروس التي كان يلقيها الشيخ يتبين لنا مدى سعة الأفق لديه، واطلاعه على أصول العلوم التي يستمد منها فقهه، فهذه الكتب بعضها لأئمة حنفية وشافعية وحنابلة، وبعضها لأئمة متقدمين ومتأخرين.
وهناك جانب آخر من جوانب ثمرات اهتمام الشيخ بالكتب والقراءة وهو: الفتاوى، وتتنوع فتاواه لتشمل جميع شؤون الحياة، ومن خلال الفتاوى نجده يفتي في نوازل فقهية معاصرة؛ كأحكام الورق النقدية، وحكم زكاة الرصيد المقفل في البنك، والاقتراض من البنوك، ومسائل تغير النقد، وغيرها، كما نجده في الفتاوى والأحكام القضائية يستحضر القواعد الفقهية في المسألة؛ كقواعد ابن رجب، ويلحق المسألة أو القضية بها.
والمتأمل في فتاواه -رحمه الله- يجد أنه يتمسك بالمذهب إلا أنه غير متعصِّب له، وقد يخرج أحيانًا عن مشهوره إلى صحيحه أو إلى إحدى الروايات عن الإمام أحمد.
وكان -رحمه الله- إذا أراد البحثَ عن مسألةٍ فلا يكتفي في ذلك بكتاب واحد، بل لا بدّ له من الرجوع إلى مجموعة من الكتب التي تتحدَّث عن المسألة نفسها، حتى إذا ما تم له قراءة ما أراد أملى رأيه في هذه المسألة بما يعتبر جمعًا لأطراف القول فيها بعد تحريره محل الوفاق ومحل النزاع، فيختار فيها قولًا يذكر مستندَ المصير إليه ومسوغ القول به، من ذلك على سبيل المثال: رأيه في التسعير، وكلامه في تحريف أهل الكتاب التوراةَ والإنجيل وسلامة كتاب الله القرآن من ذلك، حيث تولى ذلك مع سماحته الشيخ عبد الله المنيع.
ومن حرصه -رحمه الله- على التثبّت: أنه قد تعرض له الرغبة لاستذكار حكم شرعي لمسألة ما من مسائل العبادات أو المعاملات، وقد تكون هذه المسألة من المسائل البديهية الواضحة للأكثر، فيطلب -رحمه الله- أكثر من كتاب يتحدَّث عن هذه المسألة، فتقرأ عليه، ثم يقول: الآن تطيب النفس في القول فيها.
وقد قال له الشيخ عبد الله المنيع ذات مرة: إنّ مثل هذه المسائل واضحة لا يحتاج الأمر إلى استذكارها من الكتاب، فأجابه: يا عبد الله، الأعمال شغَلتنا عن بضاعتنا، فلا بدّ لنا من فرَص نرجع فيها إلى كلام أهل العلم؛ استذكارًا، أو استزادة في العلم والفهم، أو استبيانًا لما قد يخفى علينا، وليس علينا نقص في ذلك([5]).
لذا كان الشيخ -رحمه الله- محلّ ثقة في علمه لدى كثير من المسلمين، فكانت الأسئلة ترده حتى من دول غير عربية؛ كإيران وباكستان والهند وماليزيا والسنغال واليابان وإيطاليا وأمريكا وكندا وغينيا وغيرها من البلدان([6]).
الشيخ واطّلاعه على علوم اللغة وغيرها:
وأمّا عن توسّعه واطلاعه على سائر الفنون فقد كان -رحمه الله- ذا علم معتبر في علوم التاريخ والأنساب والفلك، وفي علوم اللغة العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وبديع؛ وكان ذا ذوق رفيع في إدراك غرر القصائد العربية والقدرة على تحليلها والغوص على دقائق معانيها، يقول الشعر بلا تكلّف، تحدّث عن نفسه -رحمه الله- فقال: لو أردت لما تحدَّثتُ إلا بالشعر، إلا أنه يرى في الشعر ما رآه الشافعي فيه حيث يقول:
ولولا الشعر بالعلماء يُزري لكنت اليوم أشعر من لبيد([7])
فكان الشيخ -رحمه الله- مع انصرافه التامّ إلى جلائل الأعمال وكبرى المهامّ وتبحره في العلم والفقه والتفسير والحديث وعلوم العربية تحصيلًا وتعليمًا متذوّقًا للأدب الرفيع، محبًّا للشعر الجميل الرصين، يهشّ لسماعه، ويطرب لوقعه، ويميز متينه من ضعيفه، ولا يستغرب هذا من هذا الإمام الفقيه، فإنه من صميم جزيرة العرب، ومن قلب نجد مَهْد الشعر والشعراء.
وكان -رحمه الله- يقول الشعر في المناسبات الباسطة أو القابضة، وقد رثى عمَّه العلامة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف -رحمه الله- بقصيدة لامية تبلغ 50 بيتًا، وله قصائد غيرها في الرثاء ومناسبات الغزوات والفتوحات والإخوانيات، وله شعر لطيف يؤرّخ به ميلاد أبنائه وأحفاده بحساب الجُمّل، كما له شعر على طريقة اللغز في بعض المسائل العلمية يحاجي به الأذكياء من الطلبة وشُداة العلم، يحرك به عزائمهم للبحث والاستفادة([8]).
ومن جوانب عنايته بالكتب: الاهتمام بطباعتها وتوزيعها.
فقد حرص -رحمه الله- على طباعة الكتب النافعة ونشرها، وجعل الكتب الشرعية محل اهتمامه، وكان يقول في خطابه الذي بعثه في عام 1378هـ لولي العهد حينذاك الملك فيصل: “فإن كلَّ كتاب فقه أو توحيد أو حديث أو تفسير أو تاريخ ينفد أو يقلّ وجوده من أيدي العلماء والطلبة، وهو نفيس وفيه فائدة، فهو الذي يطلب طبعه وتوفيره للعلماء الأجانب وغيرهم ممن ترى الحكومة أيَّدها الله الإهداء إليهم، وهذا كما أنه حسنة وخطوة كبرى في سبيل تسهيل العلم ونشره، فهو مظهر جميل وعناية بالكتب السلفية التي يهمّ شأنها كل عالم سلفي في أقطار الدنيا، مع أنه دائمًا ما يهدى للحكومة كتب دينية، وفي حال قبولها تؤدَّى قيمتها على ذلك البند”([9]).
ومن جوانب عنايته بالكتب: عنايته بالمكتبات.
كان من الأعمال المناطة بسماحته رئاسةُ “المكتبة السعودية” التي أنشئت بجوار مسجد سماحته بحي دخنة عام 1370هـ، وكانت في تأسيسها وتكوينها وإدارتها تحت إشرافه ونظره.
وقد جلب إليها الشيخ نوادر الكتب والمصادر العلمية، من شتى البلدان العربية وغير العربية، وحرص على تزويدها بأمهات كتب التفسير والحديث والرجال والمصطلح والفقه والأصول والتاريخ والأدب والشعر واللغة وغيرها من العلوم الإسلامية، واقتنى لها مطبوعات، وصوَّر لها كثيرًا من المخطوطات المهمة مما قدَّر أن الحاجة إليه سريعة، فغدت من أغنى المكتبات العامة في الرياض إن لم تكن هي أولها إنشاءً وتأسيسًا، وفيها طائفة من المخطوطات النادرة([10]).
وقُدِّر ما جُمع فيها بحوالي خمسة عشر ألف كتاب مطبوع، و117 مخطوطًا([11]).
ومن تأمل في العدد المذكور (خمسة عشر ألف كتاب) فإنه يجزم قطعًا أن محتوى هذه الكتب لا بد أن تكون منوَّعة المشارب، وشاملة لجميع المذاهب؛ مما يعطي صورة واضحة عن احترام الشيخ للمذاهب وعلمائها.
الوقفة الثانية: بيان منهج الشيخ في الأحكام القضائية المتعلقة بالكتب المخالفة واطراد منهجه:
أ- علاقة الشيخ بمراقبة المطبوعات:
في عام 1347هـ صدر أول نظام للمطابع والمطبوعات في المملكة العربية السعودية، وجاء فيه ذكر ضوابط الكتب الممنوعة كما في النص التالي:
ممنوع إدخال الصحف والنشرات والكتب التي تدعو إلى ما هو آت:
- تدعو إلى الإلحاد والتخريف.
- تدعو إلى البدع وتحبيذ الرذيلة.
- أن تكون ضارة بمصالح البلاد والحكومة([12]).
وفي عام 1358هـ صدر نظام المطابع والمطبوعات في المملكة العربية السعودية، وجاء فيه ما يؤكد الضوابط الثلاثة الماضية، مع التأكيد على عدة نقاط، منها:
– أن لهذه اللجان حقَّ تدقيق المطبوعات الخارجية والداخلية، والتصريح بتداولها في المملكة، ومنع ما يخالف الدين الإسلامي الحنيف والآداب وسياسة الدولة.
– يجوز منع عدد معين من المطبوعات التي تصدر في الخارج، وتقضي المصلحة بعدم انتشارها من الدخول والتبادل في المملكة بقرار من مجلس الوكلاء.
– لا يجوز مصادرة أو منع أي مطبوع من المطبوعات من النشر والتوزيع والبيع، سواء طبع في الداخل أو في الخارج إلا بقرار من لجنة تدقيق المطبوعات مصدَّق عليه من الجهات المختصة ([13]).
وفي عام 1371هـ أوصى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وليَّ العهد بجعل هيئة لمراقبة الكتب، والتفتيش على مكاتب البيع الموجودة في الرياض، ويعهد إلى جميع المراكز أن لا يمر بهم شيء من الكتب حتى يأخذوا أسماءها، ويرسلوه إلى تلك الهيئة التي في الرياض([14]).
ولَمَّا شكلت هذه اللجنة جعل أحكامها عامَّة على جميع ما يصدر من الداخل، وما يرد إلى البلاد من الخارج، ولم يكن يتساهل في هذا الأمر، فقد كتب إليه أمين المكتبة القطرية بالأحساء يطلب إذنًا عامًّا لما يصدر من مكتبة الشيخ علي آل ثاني، فأجاب بقوله: “نحن نقدر للشيخ علي آل ثاني غيرته الدينية وهمته العالية في طبع الكتب النافعة وتوزيعها على طلبة العلم، أما بالنسبة لمراقبة ما يصدر عن المكتبة القطرية بالأحساء فأمر لا بد منه؛ أسوة بغيرها من المكتبات ودور النشر في كافة أنحاء المملكة”([15]).
ب- ضوابط الكتب الممنوعة من فتاوى الشيخ:
القصد من إنشاء مراقبة المطبوعات هو منع الكتب التي بها مخالفات شرعية بالدرجة الأولى، والتي تضر الناس في دينهم ودنياهم، وفي هذا صيانة لهم عن المعتقدات الضالة والتصورات الفاسدة، ولا يخفى على رب الأسرة ما لهذه المراقبة من أهمية في تربية الأبناء، وإخراج الأجيال الناجحة والمجتمعات الصالحة، فمصدر التلقي له تأثير في توجيه الناس للخير أو الشر، وحين نقرأ في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- في هذه المسألة نجد هذه الغيرة متَّقدة جذوتها لديه، فالحفاظ على هوية المسلم من أهم ما يعنى به؛ لذا يمكننا استخراج ضوابط المنع للكتب وطريقة تعامل الشيخ معها من خلال النقول الآتية، وهي بمثابة القواعد في هذا الباب:
* الكتب الممنوعة لا تنحصر أسماؤها، فإن كل كتاب يشتمل على باطل فإنه ممنوع، ووظيفة المكتبة توريد الكتب النافعة التي لا محذور فيها، وليس وظيفتها وشأنها توريد الكتب كلها حتى يطلب تبيين ما لا يصلح ليتَّقى، أما ما كان مشهورَ النفع في علم الطب أو لغة أو ما أشبه ذلك وفيه أشياء منتقدة فهذا شيء آخر([16]).
* وجوب حماية المكتبة من كتب الإلحاد والأفكار المستوردة والدخيلة على ديننا وتقاليدنا، وتطهيرها من كتب الانحلال والتفسخ الأخلاقي([17]).
* عدم جواز التجارة في الكتب المشتملة على شيء من البدع والضلال([18]).
* مصادرة كل كتاب يشتمل على الشركيات والبدع، أو يدعو إلى التحلل الأخلاقي أو العقائدي، وعليه فما صودر شر لا خير فيه، ولا حق لمستورده في التعويض عنه([19]).
يتبين لنا مما سبق أن منهج الشيخ في مصادرة الكتب ومنعها وإتلافها راجع إلى ضوابط مهمة، والمتـأمل في هذه الضوابط التي ذكرها الشيخ لا يجد ما يُستنكَر عليه، فمن ذا الذي يرى أن الإضلال في عقائد الناس شيء سهل، وهو يعلم أن جميع الأنبياء والرسل ما بُعثوا إلا لتعبيد الناس لربها؟! وكذا القول في كتب الانحلال والتفسخ الأخلاقي، ودورها في انتشار الرذيلة؛ من الروايات التي تدعو إلى الإباحية، كلها مما لا يخفى على العاقل مغبتها، وسوء أثرها على الأجيال الصاعدة.
ولا أظنّ مخالفًا يمانع من مثل تلك الأحكام إلا من لُبِّس عليه أو كان في قلبه هوى، فكل ما هو ضرر محض -راجح أو محقق- يجب منعه، أما ما كان مشتملًا على ضرر وليس خالصًا فهذا يتجاذبه وجهات النظر والاجتهاد، وحكم الحاكم (القاضي) يرفع الخلاف.
ومن قرأ فتاوى الشيخ علم أن للشيخ فتاوى في إتلاف بعض هذه الكتب الممنوعة، وإحراق بعضها، وحجز بعضها، وهذا ما يجرنا إلى قضية الإحراق التي هي فرع عن الإتلاف، فالقصد هو إتلاف الكتاب الممنوع، سواء بالحرق أو التمزيق أو غيره.
فالشيخ -رحمه الله- منع عدةَ كتب، وأمر بمصادرة بعضِها، وحرق بعضها، فله أحكام متناسبة مع كل كتاب من الكتب الممنوعة.
بعض الفتاوى المتعلقة بالمصادرة والإتلاف:
* إتلاف الكتاب المسمى: (أبو طالب مؤمن قريش).
فقد تم بحكم قضائي، فإنه بعد أن جرى الاطلاع على المعاملة الأساسية والصك الصادر من القضاة الثلاثة المقتضي إدانة المؤلِّف، والمتضمن تقريرهم عليه؛ عُزر بأمور أربعة:
أولها -وهو محلّ الشاهد-: مصادرة نُسَخ الكتاب وإحراقها، كما صرح العلماء بذلك في حكم كتب المبتدعة([20]).
وقد تقرر إتلاف هذا الكتاب وحرقه لما فيه من الضرر المحقَّق، فقد أقرَّ مؤلفه بما فيه من الأخطاء، حيث عدَّد جملة منها، ومن ذلك:
1- الجزم بإيمان أبي طالب.
2- انتهاك حرمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: برمي بعضهم بالزنا، وتفسيق البعض، وتكفير البعض، ونسبة البعض إلى أخذ الرشوات مقابل وضع الحديث واختلاقه على النبي صلى الله عليه وسلم.
3- أحاديث مختَلَقَة على النبي صلى الله عليه وسلم اعتمَد عليها في الكتاب المذكور.
* إتلاف تفسير محمد أسد:
أرسل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ خطابًا إلى حضرة معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، ومما ورد فيه: “… تعلمون ما جرى في مجالس دورة المجلس التأسيسي الماضية حول (تفسير محمد أسد)، وما تم من وجوب إتلاف التفسير وعدم توزيعه، وإصدار بيان من الرابطة ببيان الأخطاء الواقعة فيه؛ حتى ينتبه لذلك من كان وقع في يده شيء منه، وحتى يعلم الناس أن الرابطة لم ترض بتلك الأخطاء ولم تقر المترجم عليها”([21]).
وهذا التفسير مع ما فيه من ترجمة يشكر عليها المؤلف، إلا أنه وقع في بعص الأخطاء، فرأت الرابطة حجبه بعد صدوره؛ لتلك الملحوظات.
ومن أهم تلك القضايا:
1- توسعه الكبير في تأويل النص القرآني تأويلًا مجازيًّا أدى به أحيانًا لإنكار بعض معجزات الأنبياء عليهم السلام، كما قاده إنكار المعجزات إلى تصنيف معان شاذة للكلمات القرآنية مما لا يسوغه الذوق ولا يؤيده كلام العرب.
2- توسعه في معاني كلمة الجن لتشمل الإنس وقوى الشر فيه.
3- إنكاره للإسراء بالجسد، وتبنيه لرأي يقول: إن الإسراء والمعراج كانا بالروح فقط.
4- ثم اعتباره أن الحجاب يترك تحديده للعرف([22]).
كما كتب د. إبراهيم عوض مقالًا عام 2006م([23])، وهو دراسة نقديّة طويلة ضمّنها ملحوظاته على الترجمة، تتعلّق في معظمها بالمصطلحات والألفاظ اللغويّة الإنجليزيّة، التي اجتهد فيها محمد أسد.
والخلاصة: أن الترجمة لا تخلو من ملحوظات جوهرية تتعلق بقضايا العقيدة؛ لذا كان رأي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ إتلافها، وبيان الأخطاء الواقعة فيها؛ حتى ينتبه لذلك من كان وقع في يده شيء منه.
* مصادرة حزب التيجاني وورده:
بعث الشيخ محمد بن إبراهيم خطابًا إلى المكرم رئيس المنطقة الثالثة بشرطة الرياض -سلمه الله-، ومما ورد فيه: “… وأنكم وجدتم بجانب الطفل حزب وورد أحمد التيجاني، لقد جرى اطلاعنا عليه، فوجدناه مشتملًا على شركيات وبدعيات وأشياء منكرة، وقد حفظناه لدينا بارك الله فيكم”.
فهذه أوراد مبتدعة صودرت، وتم التحفظ عليها؛ صيانة للمعتقد([24]).
* تمزيق مقالة خادم الحرم النبوي الشريف:
اطَّلع الشيخ محمد بن إبراهيم على خطاب مرفوع إليه، وبرفقه صورة من مقالة من سمى نفسه إفكًا وافتراء بخادم الحرم النبوي.
وأفاد بأن ما ذكره هذا الدجال المخرِّف إنما هو إفك وافتراء وتضليل لعامة المسلمين، فينبغي على من وقعت في يده هذه المقالة الكاذبة أن يمزِّقها.
كما قام الشيخ بواجب البيان، فقال: “وسنكتب حولها -إن شاء الله- ما ينير السبيل، ويكشف زيف كذبها وافتراء قائلها”([25]).
* مصادرة كتاب (من هنا نبدأ) وأمثاله:
من صور مصادرة الكتب الهدامة -والتي تدعو إلى الإلحاد- مصادرة كتاب (من هنا نبدأ)، فقد ورد عن الشيخ محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس الديوان العالي الموقر، بالإشارة إلى خطابه المرفق رقم 12 4/ 1606 في 9/ 7/ 73هـ بشأن ما رفع رئيس هيئة الوعظ والإرشاد في عسير لمقام جلالة الملك عن وجود بعض الكتب الإلحادية التي هدفها ترويج المبادئ الهدامة مثل كتاب: (من هنا نبدأ).
أفاد الشيخ أن هذه الكتب ضارة على العقيدة والدين، والواجب التنبيه على الجمارك ومفتشي المطبوعات بأن تصادر أمثال هذه الكتب، ولا يسمح بإدخالها إلى المملكة.
وكذلك الكتاب الجديد لخالد محمد خالد (هذا أو الطوفان) ينبغي منعه، والتنبيه بعدم إدخاله، فإن هذه الكتب نفعها مفقود، وضررها موجود، والغرض منها الدعوة إلى الزندقة والإلحاد والانحلال، نعوذ بالله من مضلات الفتن. والسلام 11/ 7/ 73([26]).
والمـتأمّل في هذه الفتاوى الصادرة عن الشيخ يجد العناية والحرص منه -رحمه الله- على حفظ جناب التوحيد، وسد الذرائع المفضية إلى الإخلال به، علمًا أن الشيخ لا يكتفي فقط بالإتلاف أو المصادرة في الكتب المخالفة، فقد يكتب ردًّا عليها لبيان الأخطاء الواردة فيها، خاصة فيما اختلط فيه الباطل بالحق، وفي بعض الأحيان يدلّ على الكتب النافعة بدلًا عنها، ولمن أراد الاستزادة من فتاوى الشيخ في هذه المسائل فلينظر المجلد الثالث عشر من فتاويه، فإنه ثري بمثلها.
الوقفة الثالثة: تحقيق ما جاء في كتاب “تحفة الأعيان” بخصوص ما يتعلق بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
من الكتب التي أفتى الشيخ محمد بن إبراهيم بإتلافها وإحراقها كتاب “تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان”، ولسائل أن يسأل: ما الدواعي التي دعت الشيخ إلى اتخاذ هذا القرار وإصدار هذه الفتوى؟ وللجواب عن ذلك لا بد من النظر فيما ورد في الكتاب.
فقد جاء في هذا الكتاب تعريف لمعتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، يقول المؤلف السالمي فيه: “هم بقية من أنصار نجد، وتعرفهم العامة بالأزارقة؛ لأنهم شابهوا الأزارقة في تشريك أهل القبلة، فلم تفرق العامة بينهم وبين الأزارقة، وهم إنما أخذوا من الأزارقة مسألة التشريك، ومن الحنابلة مسألة التشبيه، وأخذوا من كلّ مذهب أغثَّه، وقالوا: قد أصبنا دينًا كما صنَعت الصابئة، وكان اعتقاد الوهابيَّة في المسلمين أسوأ اعتقاد”([27]).
فالسالمي ذكر في كتابه عدة أشياء عن معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأظهر من خلالها أنه وأتباعه فرقة جديدة أخذوا من المذاهب أسوأَ ما عندها، وهي:
– أنهم شابهوا الأزارقة في تشريك أهل القبلة (أي: جعلهم مشركين).
– أنهم شابهوا الحنابلة في مسألة التشبيه (التجسيم).
– أنهم أخذوا من كل مذهب أغثَّ ما عنده، وظنوا أنهم أصابوا دينًا كما فعلت الصابئة.
والنتيجة: أن اعتقاد الوهابية في المسلمين أسوأ اعتقاد.
وفي الحقيقة حكايةُ هذا القول تغني عن رده، فالعالم الإسلامي اليوم بأكمله يعرف كذب هذه الادِّعاءات، وأنها لا قيمةَ لها، فالسلفية الحقَّة لها حضورها في المشهد الثقافي في أرجاء المعمورة، وأتباعها محارَبون منَ الفرق المبتدعة وأصحاب التوجّهات المريبة، التي عجَزت عن مقارعة الحجَّة بالحجة، فلجؤوا إلى سلاح الكذب والبهتان.
وهنا نسأل: أين العبارات التي تقرِّر تشريك أهل القبلة من مصنفات السلفيين المعتمدة؟!
وأين قال الوهابية: مَنْ خالفهم من هَذِه الْأمة فَهُوَ مُشْرك؟!
وأين تسميتُهم من لم يُهَاجر إِلَى دِيَارهمْ من موافقيهم مُشْركًا وإن كَانَ مُوَافقًا لَهُم فِي مَذْهَبهم؟!
وأين زعمهم أن أَطْفَال مخالفيهم مشركون، وأَنهم يخلدُونَ فِي النَّار؟!
وكذا القول في مسألة التشبيه: فقد اتُّهم مَن قبلَ شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الحنابلة بهذه التهمة، ويعتمد المناوئون على كتابٍ لابن الجوزي سماه: (دفع شبه التشبيه بأكفِّ التنزيه)، يزعمون أنه هو الذي يمثّل المسلك الصحيح للحنابلة، وأنه قصد الرد على من اتجه إلى التشبيه من الحنابلة.
وقد ذكر ابن تيمية -رحمه الله- عن هذا الكتاب أنه لم يكن المقصود به الردّ على جنس الحنابلة، بل كان الردّ على بعضهم كالقاضي أبي يعلى، وأبي عبد الله ابن حامد، وابن الزاغوني.
وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مواضع الخلل عند ابن الجوزي حين نقل المعترض كلامًا له عن الحنابلة فيه التجسيم المحض، وإثبات صفات لله لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وذكر أنها ثلاثة أنواع:
الأول: بيان ما فيه من التعصّب بالجهل والظلم قبل الكلام في المسألة العلمية.
الثاني: بيان أنه رد بلا حجة، ولا دليل أصلًا.
الثالث: بيان ما فيه من ضعف النقل والعقل([28]).
ونسبة التجسيم إلى الحنابلة أمر اختصَّ به نفاة الصفات دون غيرهم، فكلُّ من نفى شيئًا من الصفات أطلق على من أثبتَه لقب التجسيم.
وقد أجاب الإمام ابن قدامة المقدسي على هذه الدعوى، وناقشها؛ مبيِّنًا أن مذهب الحنابلة هو: الإثبات مع التنزيه، وليس هو التشبيه والتجسيم.
وأما إن كان المراد بالتجسيمِ الإثباتَ مع التنزيه، فهذا شرف للحنابلة أن ينسب إليهم هذا الأمر، لكن تسمية ذلك تجسيمًا خطأ، فقال رحمه الله: “سمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت قومًا يقولون: الحنابلة يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، قال: فقلت لهم: يا قوم، الله الله! إنكم لتنسبون إلى الحنابلة شيئًا ما يصلحون له، ولا يبلغون إليه، هذا قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، فجعلتموه قولًا للحنابلة، ورفعتم قدرهم حتى جعلتموهم أهلًا لذلك”([29]).
وبيَّن ابن قدامة رحمه الله التجسيم الحقيقي وهو: حمل صفات الله سبحانه وتعالى على صفات المخلوقين، وأن الحنابلة لا يقرّون بذلك؛ امتثالًا لقول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]([30]).
والغريب: أنَّ من ينشر فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم بحرق كتاب “تحفة الأعيان” اليوم يتجاهل هذا الكلام المذكور عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولا يناقشه.
الوقفة الرابعة: إتلاف كتاب “تحفة الأعيان” بناء على فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم:
لم يأمر الشيخ محمد بن إبراهيم بإتلاف كتاب “تحفة الأعيان” لأجل خلاف شخصيّ بينه وبين صاحب المكتبة التي تبيع هذا الكتاب، ولا لأجل خلاف سياسيٍّ أو ما شابه ذلك، بل علَّل تعليلًا واضحًا، يقرؤه المنصف بعين الاعتدال، فقد قال: “لما تشتمل عليه من الكذب والافتراء والبهتان المبين على إمام هذه الدعوة وتلاميذه وأحفاده، ولما فيه من الضلال والإضلال”([31]).
وقد نقلنا في الوقفة السابقة كلام السالمي المذكور عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه “تحفة الأعيان”.
أضف إلى ذلك: أن الحرق لم يكن عملًا عشوائيًّا يفعله من يشاء، ومتى شاء، فلم يأمر الشيخ محمد بن إبراهيم بتفتيش جميع المكتبات؛ لإخراج هذا الكتاب منها، ولا أعلن في الجرائد بضرورة إخراج هذا الكتاب من كل بيت وإلا تعرض صاحبه للمساءلة، كلا. فهي ليست محاكم تفتيش، وإنما هي أحكام قضائية متعلِّقة بالمكتبة التي صودِر منها الكتاب.
وقد جاء في نص نظام المطبوعات عام 1358هـ نقاط مهمة لها تعلُّق بموضوعنا، نورد منها ما يلي:
– لا يجوز لأحد بيع أو نشر أو توزيع الكتب التي لم يشملها الإذن بالترخيص من الجهة المختصة، سواء طبعت في الداخل أو الخارج.
– لهذه اللجان حق تدقيق المطبوعات الخارجية والداخلية، والتصريح بتداولها في المملكة، ومنع ما يخالف الدين الإسلامي الحنيف والآداب وسياسة الدولة.
– لا يجوز مصادرة أو منع أي مطبوع من المطبوعات من النشر والتوزيع والبيع -سواء طبع في الداخل أو في الخارج- إلا بقرار من لجنة تدقيق المطبوعات مصدَّق عليه من الجهات المختصة.
علمًا أن مدير مراقبة المطبوعات في الدمام قد قام بالفسح لكتاب “تحفة الأعيان”، وهذا مما يدلّ على وجود رأيين تجاهَه، واختار الشيخ محمد بن إبراهيم المصادرة والحرق؛ لما ذُكر.
ولسائل أن يسأل: وهل هذا الحكم عادل في حق هذا الكتاب؟
وجوابًا عن ذلك نقول: للقاضي أن يعزِّر بما يراه الأصلح، فالجهة المخوَّلة بمراقبة المطبوعات لها صلاحية فعل ذلك، والشيخ محمد بن إبراهيم هو رئيس القضاة في زمانه، ففتواه في حرق الكتاب تعتبر بمثابة الحكم القضائي، ولا اعتراض عليه في ذلك.
وأما هل الكتاب يستحقّ كل هذا أو لا؟
فصحيح أنَّ الكتاب يتحدَّث عن تاريخ أهل عمان، ولم يتعرَّض لدعوة الشيخ إلا في موطن يسير، إلا أن هذا الموطن اليسير في دولة تعدُّ العقيدة السلفية صمامَ أمانها، وأهل الدعوة الذين تكلَّم فيهم المؤلف موجود أحفادهم، ويقومون بواجب الدعوة في هذه البلاد؛ لربما أثر هذا الكتاب في نظرة العامة إليهم، خاصة ممن ليس لديهم ثقافة تؤهِّلهم لكشف الكذب والتدليس الذي وقع فيه المؤلف.
ويمكن تنزّلًا أن يقال: إن هذا الحكم يعدُّ تشدُّدًا من الشيخ محمد بن إبراهيم، وكان يكفيه أن يردَّ على موطن الخطأ دون التعرّض له بالإتلاف، أو أن يتنزل لرأي مدير مراقبة المطبوعات في حينه، إلا أننا نقول: هب أنه خطأ، أو تشدُّد في نظر البعض -ونحترم وجهة نظره-، فهل يحترم هو وجهة نظر القضاء؟!
علمًا أنَّ كتب المخالفين الموجودة في مكتبات أهل العلم الخاصَّة في بيوتهم كثيرة، ولم يتم التعرض لها؛ لأنها لم تتسبَّب في إحداث فتنة لعامة الناس، وهي في أيدي متخصِّصين.
ثم ما مدى فائدة هذا الكتاب وأهميته لعامة الناس في خارج البلدة التي يتحدَّث عنها، وفيه ما هو مصادم لما عليه نظام الدولة؟!
أيًّا كان، فهل يلغي حكمُ الشيخ على هذا الكتاب كلَّ أحكامه حول الكتب الممنوعة الأخرى؟!
لماذا لم يصوِّروا وينشروا الأحكام الأخرى للكتب التي حكم الشيخ بإتلافها، مثل: تفسير محمد أسد، وأبو طالب مؤمن قريش، ومقالة خادم الحرم النبوي؟!
وهل هذه الحادثة دليل على أن الإحراق لكتب المخالفين -هكذا بإطلاق- هو منهج الشيخ في كتب أهل العلم؟!
ولو تأمل من يقوم بتصوير هذه الفتوى ونشرها بين الناس السيرةَ الكاملة لحياة الشيخ محمد بن إبراهيم مع الكتب، ورأى كيف استفاد منها، وشجَّع على طبعها، وحرص على اقتناء المفيد منها، وأنشأ مكتبة عامة في الرياض، وأنشأ هيئة لتراقب ما يُفسِد منها على الناس دينهم ودنياهم؛ ما وسعه إلا أن يترحَّم عليه، ويسأل الله أن يجزيه خير الجزاء على ما قدَّم للعلم وأهله.
“لقد كان الشيخ (أمة) في جسَد رجل، وكان مسجده (جامعة) في قلب نجد، ملأت بلاد نجد وغيرها علمًا، وأنارتها بعلوم الشريعة، قبل أن تبنى مدارس التعليم والمعاهد والكليات والجامعات، التي هي من آثار نهضة الشيخ العلمية رحمه الله تعالى وجزاه عن العلم والدين خيرًا.
وكانت علوم الشيخ عيونًا صافية متدفِّقة، أروت الظماء، وأنشأت العلماء، وأسس الشيوخ بجهوده المخلصة لنهضة علمية كبرى، فقد تخرج به أعداد كبيرة لا تحصى من العلماء والمحصّلين، وحسبك أن تعلم أن جلَّ أكابر علماء المملكة اليوم هم من تلاميذه.
وهم الذين يشغلون أعلى المناصب العلمية والدينية، ويملؤون مناصب القضاء والإفتاء والتدريس والوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله تعالى”([32]).
ولم نشأ أن نذكر خلال هذه الصفحات إلا ما كان له صلة وطيدة لعلاقة الشيخ بالكتب، وإلا فللشيخ جهود كبيرة في المجالات المتعلقة بالعلم الشرعي، وبين أيدينا بيان تقريبي بأهم ما كان يقوم به ذاك الرجل الفذّ من المسؤوليات؛ في مجال التعليم والإفتاء والقضاء وغيرها:
(في مجال التعليم)
1- رئاسة الكليات والمعاهد العلمية.
2- رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
3- رئاسة المعهد العالي للقضاء.
4- رئاسة معهد إمام الدعوة.
5- الإشراف على رئاسة تعليم البنات.
6- رئاسة المعهد الإسلامي في نيجيريا.
(في المجالات الإدارية والشرعية)
7- دار الإفتاء.
8- رئاسة القضاء.
9- رئاسة المجلس العالي للقضاء.
10- رئاسة المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي.
11- رئاسة مؤسسة الدعوة الصحفية.
12- الإشراف على نشر الدعوة في إفريقيا.
وكان إلى جانب هذه المهمات التي تنوء بها العصبة أولو القوة خطيبَ الجامع الكبير، وإمام الفروض الخمس في مسجده، والمشرف على ترشيح الأئمة والموظفين الدينيين، وعلى تعيين الوعاظ والمرشدين.
وكان قد بدأ في إنشاء (مجلس هيئة كبار العلماء)، واعتمدت له ميزانية مالية عام 1389هـ، غير أن الأجل وافاه قبل أن يباشر المجلس أعماله، فرحمه الله رحمة واسعة([33]).
ختامًا: بعد هذه الجولة في الأوراق العلمية الثلاث التي قدَّمنا عن حرق كتب المخالفين عند أئمة الدعوة في نجد، نخلص إلى نتائج مهمة:
1- أن السلف الصالح قد قاموا بحرق كتب المبتدِعَة وتبعهم أئمة في ذلك.
2- أن أئمَّة الدعوة في نجد من أكثر الناس حرصًا على الاستفادة والإفادة من كتب المخالفين.
3- أن أئمة الدعوة في نجد من أقل الناس فتوى بحرق الكتب؛ إذ لا يكاد يثبت عنهم إلا في القليل النادر، كما هو في فتوى حرق كتاب “تحفة الأعيان”.
4- لم يثبت عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه أمر بإحراق كتاب “روض الرياحين” لليافعي، وكتاب “دلائل الخيرات” للجزولي، رغم وجود الأخطاء الشنيعة فيهما.
5- أثبت الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أن الأصل في منهجهم عدم حرق كتب المخالف.
6- أثبت الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أن الأصل في منهجهم الاستفادة من كتب المخالف فيما وافق الصواب.
7- لم يثبت أن الوهابية قاموا بحرق المكتبة العربية في مكَّة المكرمة، رغم انتشار ذلك عنهم في مواقع الشبكة العالمية، دون ردٍّ للأسف.
8- الشيخ محمد بن إبراهيم سار على المنهج الذي سطره أئمة الدعوة في الاستفادة من كتب أهل العلم، والتحذير من الكتب الضارة.
9- ضابط الكتب الممنوعة عند الشيخ محمد بن إبراهيم: كل كتاب يشتمل على الشركيات والبدع، أو يدعو إلى التحلل الأخلاقي، أو العقائدي.
10- الشيخ محمد بن إبراهيم أفتى بمنع بعض الكتب المخالفة وحفظها ومصادرتها وإتلافها وحرقها؛ لعظيم ضررها.
11- الشيخ محمد بن إبراهيم أفتى بحرق كتاب “تحفة الأعيان”؛ لما يشتمل عليه من الكذب والافتراء والبهتان المبين على إمام هذه الدعوة وتلاميذه وأحفاده، ولما فيه من الضلال والإضلال.
12- لم ينجح الأعداء في تقزيم جهود الشيخ محمد بن إبراهيم وإظهاره بمظهر التشدد في التعامل مع الكتب المخالفة؛ إذ كانت أحكام الشيخ فيها منضبطة، سوى الكتاب الوحيد الذي وجدوا فيه بغيتهم للطعن فيه، ولم يناقشوا محتوى التعليل الذي علَّل به الشيخ، بل أظهروه للناس على أنه كتاب تاريخيّ محض، حتى لو وُجد فيه بعض الملحوظات اليسيرة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
ملحقات:
(1) صورة نص الكلام المذكور عن الوهابية من كتاب “تحفة الأعيان”
(2) صورة فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم
([1]) وهذا رابطها: https://salafcenter.org/3648/
([2]) وهذا رابطها: https://salafcenter.org/3675/
([3]) محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1311-1389هـ = 1893-1969م) فقيه حنبلي، كان المفتي الأول للبلاد العربية السعودية. مولده ووفاته في الرياض، تعلم بها وفقد بصره في الحادية عشرة من عمره، فتابع الدراسة إلى أن أتم حفظ القرآن، وكثير من الكتب والمتون. تصدر للتدريس، وعين مفتيًا للمملكة، ثم رئيسًا للقضاة، فرئيسًا للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ورئيسًا للمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ورئيسًا لتعليم البنات في المملكة (1380هـ). وأنشأ «المكتبة السعودية» العامة في الرياض، وأملى من تأليفه كتبًا، منها «الجواب المستقيم»، و«تحكيم القوانين» رسالة، و«مجموعة من أحاديث الأحكام»، و«الفتاوى». انظر: مشاهير علماء نجد (ص: 169-184)، الأعلام (5/ 306-307).
([4]) انظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 172)، فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1/ 11-13).
([5]) انظر: “من أفذاذنا العلماء: الشيخ محمد بن إبراهيم”، لعبد الله المنيع، مجلة البحوث الإسلامية، العدد (18).
([6]) انظر: الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، للشثري (2/ 654-655).
([7]) انظر: “من أفذاذنا العلماء: الشيخ محمد بن إبراهيم”، لعبد الله المنيع، مجلة البحوث الإسلامية، العدد (18).
([8]) انظر: “فقهاء معاصرون: الشيخ محمد بن إبراهيم”، عبد الفتاح أبو غدة، مجلة الدارة، العدد (2).
([9]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 113).
([10]) انظر: “فقهاء معاصرون: الشيخ محمد بن إبراهيم”، عبد الفتاح أبو غدة، مجلة الدارة، العدد (2).
([11]) انظر: الأعلام، للزركلي (5/ 307).
([12]) صحيفة أم القرى، 23/ 11/ 1347هـ.
([13]) صحيفة أم القرى، 16/ 12/ 1358هـ.
([14]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 15-16).
([15]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 16).
([16]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 114).
([17]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 115).
([18]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 116).
([19]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (8/ 176-177).
([20]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (12/ 188).
([21]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 122).
([22]) انظر: دراسة نقدية لترجمة محمد أسد لمعاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، د. عبد الله الخطيب، المجلد (21)، العدد (66).
([23]) نُشر في «مُدوّنة ملتقى أهل التفسير».
([24]) انظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 123).
([25]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 146).
([26]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (13/ 122).
([28]) انظر: مجموع فتاوى (4/ 165-190)، دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية، للدكتور عبد الله الغصن (ص: 139-161).
([29]) تحريم النظر في كتب الكلام (ص: 58).
([30]) تحريم النظر في كتب الكلام (ص: 58-59).
([31]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (8/ 175).
([32]) انظر: “فقهاء معاصرون: الشيخ محمد بن إبراهيم”، عبد الفتاح أبو غدة، مجلة الدارة، العدد (2).
([33]) انظر: “فقهاء معاصرون: الشيخ محمد بن إبراهيم”، عبد الفتاح أبو غدة، مجلة الدارة، العدد (2).