عرض ونقد لكتاب «فتاوى ابن تيمية في الميزان»
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
معلومات الكتاب:
العنوان: فتاوى ابن تيمية في الميزان.
تأليف: محمد بن أحمد مسكة بن العتيق اليعقوبي.
تاريخ الطبع: ذي الحجة 1423هـ الموافق 2003م.
الناشر: مركز أهل السنة بركات رضا.
القسم الأول: التعريف بالكتاب
الكتاب يقع في مقدمة وتمهيد وعشرة أبواب، وتحت بعض الأبواب فصول ومباحث وتفصيلها كالتالي:
المقدمة:
تحدث فيها المؤلِّف عن انتشار كتب ابن تيمية بين الناس وتوزيعها بالمجان، وأن هذا كان سببًا في افتتان العامة بها والمثقفين، وإصغاء العلماء لها، وإشادتهم بها، وردهم على التُّهم الموجهة إلى ابن تيمية.
ورأى المؤلف فيما ذكر سببًا لقراءة كتب ابن تيمية، وبعد قراءتها على حد تعبير المؤلف “وجدها موسوعة بدع لم تكد تدع بدعةً إلا أتت بها ونصرتها”([1])، وقد كان المؤلف -على حد تعبيره- يعتقد أنَّ بدع ابن تيمية منحصرة في القول بالجهة والتشبيه، وإنكار التوسل وشد الرحال إلى قبور الصالحين؛ لكنَّ المؤلف وجد أنَّ ابن تيمة يقول بقدم العالم، وبحدوث القرآن، ويجوِّز القول بخلق القرآن وبحلول الحوادث في الله سبحانه وتعالى! ويقول بفعل الأسباب بطبعها، كما يقول بعدم عصمة الأنبياء، وبفناء النار، ويسبُّ الأولياء والصالحين([2]).
ويرى المؤلف أنَّه من الواجب عليه بعد أن رأى كل ما ذكر: أن ينصح للعلماء، ويبين لهم ما اطلع عليه من بدع ابن تيمية، وفي نفس السياق نبَّه على عدم وجود الإضافة في كلام ابن تيمة وأنَّ كلامه مجرد تكرار وإعادة لنفس القضايا في أثواب متعددة وأساليب مختلفة، ورأى أنَّ تبني كتب ابن تيمية يعدُّ تضليلًا لعامة الأمة من أهل المذاهب الأربعة والأشعرية والمتصوفة، وقد سرد أسماء لكبار المحدثين من الفقهاء والعلماء والمفسرين وختم بجمع من علماء شنقيط يرى أنهم يخالفون عقيدة ابن تيمية؛ بعضهم من ذويه وبعضهم من موافقيه وهم مربط الفرس عنده([3])؛ لأنه يريد حماية التدين المحلي.
التمهيد، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في أقوال العلماء في ابن تيمية:
وقد حشد فيه المؤلف أقوال معارضي شيخ الإسلام ابن تيمية فيه، ومن أبرز هؤلاء: تقي الدين السبكي، ويحيى بن إسماعيل بن جهبل، والزملكاني، والأخنائي قاضي المالكية، وابن جماعة([4])، وأتى المؤلف بنقول عن ابن دقيق العيد وابن حجر والسخاوي يرى فيها على حد قوله إدانة وتبديعا لابن تيمية، وخلص إلى أن الاستفادة من كتب ابن تيمية متعذرة؛ لأن البدعة غالبة فيها كالجهة، ووصف الله بحلول الحوادث، ومنع التوسل والاستغاثة، وسب الصالحين والأولياء([5]).
الفصل الثاني: في الحشوية وهم طائفة ابن تيمية:
وقد عرف في هذا الفصل الطائفة الحشوية، وذكر أن منها المجسمة، ثم ذكر أن بعض المنتسبين لأحمد بن حنبل كانوا غلاة في الإثبات فأثبتوا صفات لا تليق بالباري سبحانه وتعالى، وأشاد بردود ابن الجوزي عليهم في كتابه: “دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه”.
ثم عرج على أن ابن تيمية التزم لوازم مذهبه الباطلة.
ثم ذكر أقوال العلماء في ذم الحشوية ونقدهم، وذكر طرفًا من معتقداتهم، والتي منها حلول الله في العرش، ونقل عن ابن الجوزي حمله على الحنابلة في موضوع الصفات وإجرائها على ظواهرها التي لا تنفك عن معنى الحدوث([6])، ولم يخرج في نقله عما ذكره ابن الجوزي في “دفع شبه التشبيه”، ثم أحال في الكلام على الحشوية الحديثة إلى كتاب الشيخ أحمد بن فتى الحسني الشنقيطي الموسوم بـ “فتح المبين المبين”([7])، وإلى كتاب محمد بن حبيب الله بن مايابى الجكني الشنقيطي الموسوم بـ “فتح المنعم على زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم”، و “تكملة الرد على نونية بن القيم للكوثري”([8])، وختم كلامه بأن الحشوية القديمة والحديثة تشتركان في تحريف كلام أهل العلم ليأتي موافقًا لأغراضهم([9]).
الفصل الثالث: عقيدة أهل السنة والجماعة:
وقد ذكر فيه العقيدة الأشعرية في الصفات، ووجوب تأويل ما ظاهره التشبيه، وأدلتهم في ذلك، ومعتقدهم في نفي الحرف والصوت عن الله عز وجل، ونفي الأسباب وتأثيرها، واستدل لكل ذلك بما يسمح به موضوع الكتاب من منقول ومعقول([10]).
ثم بعد هذا التمهيد شرع في الأبواب:
الباب الأول: الصفات البارزة لفتاوى ابن تيمية. وتحته خمس فصول:
الفصل الأول: شيوع التشبيه والتجسيم في الفتاوى:
وأتى فيه بنصوص يرى أنها تدين ابن تيمية في قضية التشبيه، من ذلك أنَّ ابن تيمية يرى أن التشبيه لا يعني شيئًا كثيرًا([11])، وفي هذا تهوينٌ من عظمة التشبيه وخطورته، ويرى المؤلف من خلال النقول التي نقل أن ابن تيمية يقيس الله على خلقه، ويرد عليه بأن ما يقوله يرده العقل والنقل، فأما النقل فلقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [سورة الشورى:11]. والعقل يدل على استحالة التشبيه في حق الله تعالى.
وكذلك رأى الكاتب أن ابن تيمية يصف الله بالجسم وينظِّر لذلك([12])، وقد أحال في بعض ما يريد إثباته إلى تكملة الرد للكوثري([13])، وبقية نصوص الباب تدور حول نفس المسألة.
الفصل الثاني: تحامل ابن تيمية على خصومه وتحريفه لكلامهم:
وقد افتتح الفصل بنقلٍ عن السٌّبكي في رده على ابن القيم، يبين فيه أن ابن القيم يقصد بالمعطلة والجهمية الأشاعرة، وتبرع المؤلف بقياس ابن تيمية عليه بجامع الاعتقاد، وطفق ينقل عن ابن تيمية بعض ما يقوله في الأشاعرة أثناء الرد عليهم وتقويم مذهبهم.
ثم عقد مقارنة بينه وبين ابن حجر، وفضَّل ابن حجر عليه، ورأى أنَّ ابن تيمية ليس له قيمة عند الحنابلة ولا هو معدود في مذهبهم عند المخالفة، كما ادعى المؤلف على ابن تيمية تحريفه لكلام محي الدين ابن عربي([14]).
الفصل الثالث: أسلوب ابن تيمية في المراوغة والتضليل:
وقد افتتح هذا الفصل بممارسة ما يشبه الدعاية الانتخابية على حد تعبيره، وهذه المراوغة التي يتكلم عنها المؤلف عند ابن تيمية لها سمتان:
السمة الأولى: التستر على الآراء.
السمة الثانية: تصوير أن قوله هو الحق.
وضرب لذلك مثالًا وهو نقل ابن تيمية لخلاف المتكلمين في قياس الغائب على الشاهد، وعلق الكاتب قائلا: “فهو هنا -أي ابن تيمية- يمهِّد لأمرٍ خطير، وهو إثبات التجسيم بقياس الخالق على المخلوق في صفاته، وهذا هو عين التشبه والتمثيل، ولكنه لا يهجم صراحة ومنذ الوهلة الأولى على مراده، بل يحاول أن يقيم عليه الدليل من الآية قبل أن يتحدث عنه، ثم يعزوه بعد ذلك لطائفة من المتكلمين ومن أصحابه أي من سلفه، ثم يذكر بعض مخالفيهم ثم يقيم نفسه حكمًا بين الطائفتين”([15]).
وذكر أمثلة من نفس الباب تأتي مناقشتها في النقد للكتاب، وكذلك تعقبه في حكاية الإجماع على كروية الأرض، وقال إن ابن تيمية أقحم الإجماع في المسألة، وذكر أن ذلك من أساليب المراوغة، ومن تلك الأساليب أيضًا: ذكر أقوال أهل السنة ونسبتها للجهمية([16])، وكذلك تسميته لأهل السنة بأتباع فرعون، وأنه يشبه قولهم في الاستواء بقول اليهود([17]).
وقد ذكر المؤلف في هذا الفصل مبحثًا صغيرًا أسماه: موضحة، ولا أدري هل يقصد التعبير الفقهي عند الفقهاء في باب الجنايات أم هي على بابها، وهذه الموضحة هي جناية من المؤلف خص بها ابن القيم ليثبت بها مراوغة ابن تيمية، فقد تكلم عن كلام ابن القيم في فناء النار وأتى بما قدم به الباب وجعله نموذجًا للمراوغة([18])، وداوى الموضحة بذكر الإجماع على القول بأن النار لا تفنى وختم به الباب.
الفصل الرابع: في عدم أمانة ابن تيمية العلمية:
وقد ذكر لذلك أمثلة عديدة، منها: نقله لكراهة مالك لوضع اليد على المنبر، ورأى أن ابن تيمية قد حرَّف القصة، ومنها: زيادته ونقصه في حديث الأعمى، ومنها: حكاية الاتفاق على أن التمني في الآية هو القراءة، ومنها: كلامه على حديث الجلوس على العرش([19])، ومنها أيضًا ادعاؤه أنَّ السلف والخلف مختلفون في فناء النار([20])، ومثله وصف الله بالسكوت، ونسبة الأشعرية للإرجاء([21]).
الفصل الخامس: منهاج ابن تيمية:
وقد خلص فيه إلى أن طريقة ابن تيمية هي التمحُّل على الخصوم، والكذب عليهم، وخصوصًا في الرد على متكلمي أهل السنة على حد زعم المؤلف، وقد ادعى عليه التنقص من آل البيت عليهم السلام، وهو في ذلك معتمد على نقل النبهاني([22]).
الباب الثاني: في قوله بالجهة ورد ذلك. وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: قول ابن تيمية في الجهة:
وقد تحدث فيه عن الجهة، وعن معناها في اصطلاح المتكلمين، والاستدلال لها، ثم ذكر إثبات ابن تيمية لصفة العلو واستدلاله لها، ورأى أن في القول بذلك قولٌ بالجهة على طريقة المتكلمين، ونقل عن ابن تيمية كلامه في الجهة وتفصيله في المسألة ورأى فيه إدانة له([23]).
الفصل الثاني: رد القول بالجهة من الكتاب والسنة:
وذكر أن أدلة رده نوعان:
الأدلة المصرحة بذلك، وهي كل الآيات التي تنفي التشبيه، وأكثرها إحكاما قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [سورة الشورى:11]. وذكر عدة آيات أخر من سورة الإخلاص وما تضمنته من نفي التشبيه، وتكلم في معنى الكفء، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [سورة مريم:65]. ورأى أن في هذه الآيات نفيًا للجهة، وردًّا للقول بها.
النوع الثاني من الأدلة على نفي الجهة: ظواهر الأدلة الموهمة لوجوده جل وعلا في جهة غير جهة الفوق، مثل القرب والإحاطة والمعية وغيرها([24]).
الفصل الثالث: رد القول بالجهة من جهة النظر العقلي:
وقد قدم له بمبحثين: الأول عن الاستدلال العقلي في القرآن، ووجوده([25])، ثم تكلم عن فساد طريقة الحشوية المتكلمة بالباطل، المتبلدة في النقل، الأعجمية في الفهم([26]).
والثاني: إنكار ابن تيمية لمصطلحات علم الكلام وذمه لها. وقد تكلم فيه عن اصطلاحات أهل الفنون من مصطلح وفقه ونحو وصرف وغيرها، وأنها مصطلحات للتفاهم والتخاطب، وسوَّغ بهذا المقدمات اصطلاحات المتكلمين من نحو الحيِّز والجوهر والعرض، ورأى في هذا التسويغ ردًا على قول ابن تيمية([27])، وأدخل تحت هذا المبحث ما ليس داخلا تحت عنوانه من تبديع ابن تيمية الانتساب للأشعري، ودعواه أن ابن تيمية تناقض في رد المصطلحات؛ فأحيانًا يستخدمها، وأحيانا يردها إذا ألزم([28]).
ثم ذكر معاذير أهل الكلام في استخدام المصطلحات الكلامية([29]).
ثم ذكر أربعة براهين عقلية يراها أدلة على ما يقول في نفي الجهة، وكل هذه البراهين نقله عن عالم استهلك ثناؤه عليه من السطور ما هو أكثر من البرهان نفسه أو قريب منه، والبراهين التي ذكرها هي:
البرهان الأول: أنه لو كان في جهة لكان مشارًا إليه بالحس، وإذا كان في جهة مشارًا إليه لزم تناهيه لانحصاره في تلك الجهة دون غيرها.
البرهان الثاني: أن العرش وهو الجهة التي يشيرون إلى الله بها إما أن تكون معدومة أو محدثة، والقول بالعدم مكابرة؛ لأن المعدوم لا يشار إليه، وإما أن تكون موجودة، ووجودها إما أن تكون محدثة أو قديمة، فإن كانت قديمة فهذا قول بقديم مع الله، وإن كانت محدثة فهو قول بحصول التحيز لله.
البرهان الثالث: أنه لو كان في جهة فإما أن يكون أكبر أو أصغر أو مساويًا، والقول بأنه أكبر يلزم منه القول بالتجزئة، وإن كان مساويًا للجهة فإنه يلزم منه كونه منقسمًا، وإن كان أصغر منها تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فإن كان مساويًا لجوهر فرد فقد رضوا أن يكون إلههم قدر جوهر فرد، وإن كان أكبر منه انقسم([30]).
البرهان الرابع: أن القول بالجهة يلزم منه القول بالافتقار إلى التحيز([31]).
الفصل الرابع: مناقشة أدلة القائلين بالجهة ورد استدلالهم بها:
وقد أتى فيه بالآيات الدالة على العلو وتأولها، وسلك لهذا التأويل مسلكًا وهو الإتيان بمعاني الأفعال والحروف في اللغة العربية واختيار ما يناسب ما يراه تأويلًا سائغًا مناسبًا للتنزيه، وبعيدًا عن الظاهر الموهم للتشبيه([32])، وبعد نقل غير متوسع في المسألة خلص إلى أن التفويض هو مذهب السلف، والتفويض الذي يرجح هو التفويض بمعناه عند المتأخرين، وأن التأويل مذهب الخلف، والحمل على الظاهر مذهب المشبهة([33]).
الفصل الخامس: موقف أهل السنة ممن يقول بالجهة في جانب الله سبحانه وتعالى: وحاصل ما ذكره اتفاقهم على التبديع والتضليل والتفسيق واختلافهم في التكفير، وقد نقل عن القرطبي معتمدًا على تكملة الرد للكوثري ترجيح القول بكفرهم وختم به الفصل([34]).
الباب الثالث في قوله بقيام الحوادث بالله تعالى والقول بقدم العالم والرد على ذلك. وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول إثبات ذلك من كلامه:
وقد بين أن هذا الاصطلاح من عندياته، وهو إلزام لابن تيمية في قوله بالحرف والصوت والنزول، وألزمه المؤلف في قوله بذلك أن يكون قائلًا بالحوادث، وكل نقولاته تصب في هذا المعنى([35]).
كما تكلَّم عن مسألة تسلسل الحوادث، أو حوادث لا أول لها، ولما أورد كلامًا لابن تيمية أتبعه بقوله: هذا كلامٌ غثٌّ ركيك، وأحيانًا يراه استغاثة بالمجوس والنصارى وغيرهم من أرباب الملل الكفرية([36])، وفي تعليق ابن تيمية على حديث عمران ورواية (كان الله ولا شيء معه)، أورد كلام ابن تيمية وعلق عليه بأنه: اتباع للهوى، وعمل بالرأي([37]).
وختم الباب بنقول ظاهر الإتيان بها تكفير ابن تيمية في قضية القول بحوادث لا أول لها والتي يسميها المؤلف في اصطلاحه قدم العالم.
الفصل الثاني: في رد قوله بقدم العالم:
ومن جملة مارد به على ابن تيمية: التصريح في مذهب الإمام مالك وخصوصا في مختصر خليل بكفر القائل بقدم العالم، ومثله الغزالي من الشافعية، والقاضي عياض من المالكية، وبعض الردود العقلية التي ليست بدهية، ووضحها بالمثال([38]).
الفصل الثالث: تنزيهه سبحانه وتعالى عن قيام الحوادث به:
وقد تحدث في صفحتين عن استحالة قيام الحوادث، والتأكيد على زيغ ابن تيمية، وأحال في الرد على الفصل الذي قبله([39]).
الباب الرابع: قوله بحدوث القرآن العظيم، وأنه تعالى يتكلم بصوت ورد ذلك. وفيه فصلان:
الفصل الأول: الفصل الأول إثبات قوله بذلك من نصوصه:
وقد أورد لابن تيمية نصوصًا يراها تشهد لما يذهب إليه، وعلق عليها بأن ابن تيمية المبتدع لا يمكن تتبع نصوصه كلها([40]).
الفصل الثاني: رد قوله بذلك:
قرر فيه مذهب الأشاعرة المعروف في الكلام النفسي، واستشهد له بما استطاع من الآثار والأشعار، ثم أتى بردود السلف على المعتزلة في خلق القرآن، ثم علق بعد النقولات بقوله: “لقد غر هذا المسكين شيطانه، واتخذ الجهة هواه، فبئس ما صنع”([41])، ويرى أن معتمد ابن تيمية في النقل عن الإمام أحمد هو كتاب “الرد على الجهمية” وهو كتاب لا تصح نسبته إلى الإمام أحمد ([42])، وقد اعتمد في رد أحاديث الصوت على قول ابن العربي ونظَّار الأشعرية، وما خلص إليه الكوثري في المسألة رادا لقول ابن حجر والبخاري([43]).
الباب الخامس: في قوله بعدم عصمة الأنبياء:
وابتدأ القول في الباب بحكاية الإجماع في عصمة الأنبياء، ونقل عن ابن تيمية ذكر الخلاف في العصمة، وجعل قوله هو القول بعدم العصمة، وبناء عليه نسبه إلى الضلال! وبدأ يورد الروايات في حديث الغرانيق، وجعل يورد أقواله في تعظيم شأن النبوة ويتأولها ويرى أنها مجرد إيهام لا غير([44])، وبعد ذكره للخلاف في الصغائر وجوازها من عدمه على الأنبياء رد على ابن تيمية بكلام أحد العارفين -على حد تعبير المؤلف- وهو عبد العزيز الدباغ([45])، وبكلام أبي العباس التجاني([46]).
وختم الكتاب ببعض الآداب المأخوذة من كتب التربية وبعضها نازل في النقل([47]).
الباب السادس: أن السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم معصية، وأن التوسل به شرك أو وسيلة إلى الشرك:
ولم يبتدئ بنقل كلام ابن تيمة لشهرته وإنما اكتفى بنقل الردود عليه، وهذه الردود بين مبدع له ومكفر في مسألة منع شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم([48])، ولم يورد كلامه في التوسل وإنما رد عليه باتهامه بالزيغ والضلال، وسوء المعتقد، والقول بتأثير الأسباب([49]).
الباب السابع: في قوله بفناء النار وفي رأيه في البعث:
وقد أحال في قوله بفناء النار إلى كتب أتباع ابن تيمية، وإلى نسبة العلماء له هذا القول، ولم ينقل عنه شيئًا في المسألة وإنما اكتفى بنقل الردود عليه([50])، وقول ابن تيمية في البعث لم يتضح له واتهمه فيه بأنه يريد شيئًا لم يفهمه، وأنه يراوغ فيه، ولم ينقل عنه شيئًا في المسألة([51]).
الباب الثامن: في لهجه بسبِّ عباد الله الصالحين:
وعباد الله الصالحين على حد تعبير المؤلف هم: محيي الدين بن عربي، وابن الفارض، وأبو الحسين الشاذلي وغيرهم، وقد نقل كلام ابن تيمية فيهم([52]).
الباب التاسع: في قوله بأقوال الفلاسفة وتأثره بهم وبغيرهم من أهل الزيغ:
وقد أعاد فيها ما قاله في بداية الكتاب من نسبة القول بقدم العالم الى ابن تيمية، وقوله بقيام الحوادث بالله سبحانه وتعالى، وقوله بتأثير الأسباب([53]).
الباب العاشر: في المسائل التي خرق فيها الاجماع:
وهي نفس المسائل التي نقم عليه في أول الكتاب مع زيادة مسائل أخرى، و اعتمد في نقل هذه الأقوال على الحافظ العلائي، ومنها أيضًا أن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما، بالإضافة إلى أمور أخر من مسائل الفقه لا خطام لها ولا زمام نقلها عن الكوثري([54]).
وختم كتابه بأن ابن تيمية مبتدع لا يجوز وصفه بشيخ الإسلام، ولا الترويج لكتبه، ولا تبني آرائه([55]).
القسم الثاني: نقد الكتاب
أولًا: ظروف تأليف الكتاب:
في بداية التسعينات وأوائل الألفية الثالثة شهد القطر الشنقيطي انتشارًا واسعًا للمعتقد السلفي لم يشهد قبله مثله منذ سقوط دولة المرابطين، ولهذا النشاط عدة عوامل منها: وجود المعهد السعودي، وإقبال طلاب العلم الشرعي عليه، وتميزه في التدريس.
ومنها: تبني الإمام العلامة بداه بن البصيري الشنقيطي لعقيدة السلف، وكذا العلامة اللغوي الوزير محمد سالم بن عدود لها كذلك، ورفعهما الصوت بالدفاع عنها وعن شيخ الإسلام ابن تيمية؛ مما جعل الأشاعرة يرون في تبني الأعلام في هذا القطر لهذه العقيدة تهديدًا لوجودهم ولكيانهم الذي ظل يحتكر الوجود في هذا القطر قرونًا عديدة، فانتدبوا كل ابن حرة لهذه الحرب، وأقبلوا بخيلهم ورجلهم، ولم يتخلف عن هذه الحرب منهم من له لسان أو قلم، وكتبوا في هذه العقائد نظمًا ونثرًا؛ لكن السد المنيع الذي بناه هذان العالمان لم يستطع الأشاعرة ولا أكابر الصوفية له نقبا، ولأمور اجتماعية تخص البلد لم يكن بالإمكان تصدير فتاوى بتكفير هاذين الإمامين ولا من يصدر عن أقوالهم من أكابر أهل العلم ومن أجاويد الطلاب، فكان ابن تيمية في مرمى سهام القوم، فحملوا عليه حملة رجل واحد، وكان صراخهم على قدر ألمهم، فخرج هذا الكتاب على حين غفلة من الناس وعجلة من التأليف؛ لأن الحاجة العقدية تدعو إليه.
وقد تظاهر بالرد العلمي والاعتماد على كتب ابن تيمية والنقل منها، وهو في الحقيقة يعنون للمسألة وينسبها لابن تيمية ثم يعتمد في إثباتها على تبني أتباع ابن تيمية لها، أو نقل خصومه! وسوف يأتي لذلك أمثلة؛ لكن الرجل كان حديث عهد بالبادية وبالرأي الواحد فكان صريحًا في ما يريد، ولا تزال نفسية الآباء والأجداد وعقيدة التدين المحلي غالبة عليه، ففي معرض محاكمة ابن تيمية يحتج عليه بشعراء الشناقطة وببعض علماء اللغة منهم، وهم من الناحية العلمية ما كان ينبغي أن يذكروا في معرض الرد على شيخ الإسلام؛ لأنهم متأخرون عنه جدا، وليسوا في مرتبته في أي باب من أبواب الدين، فهم علماء بالمقارنة مع أهل زمانهم لا بمن تقدمهم من أكابر العلماء وحفاظ الإسلام، لكن السر في ذكرهم هو الاستكثار بهم، وتبيين الانتصار لما هم عليه مما بدأ يندثر مع الوجود السلفي، ومحاولة توسيع دائرة الحشد ضد معتقد السلف، فمن لم ينتصر للأشعرية بالحجة انتصر لها بالتعصب للآباء والأجداد، وهذه النفسية هي التي جعلت مؤلف الكتاب يظهر مستشيطًا غضبًا من ابن تيمية وحنقًا عليه إلى درجة وصفه بعبارات لا يليق صدروها عن مثله في حق من هو في حجم شيخ الإسلام.
ثانيا: الكتاب غير منضبط منهجيًّا ولا علميًّا، وهو يعتمد على الاستكثار من النقل ولو لم يكن ذلك في صالحه!
فقد حشد أئمة كالذهبي وابن كثير وابن الهادي وجعلهم في صفِّه، وغفل عن تراثهم العلمي في نصرة عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا ما يدل على العجلة في التأليف، وتدخُّل الحماس في صناعة الكتاب، فغالب نقل المؤلف عن الذهبي وابن الهادي وابن كثير يوهم مخالفتهم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ وهذا خلاف واقعهم العلمي وتراثهم، فالذهبي مع مناصرته لشيخ الإسلام التي لا يجهلها أحد، فهو منابذ للأشعرية التي ينتصر لها المؤلف ويجعلها عقيدة أهل السنة حصرًا، فللذهبي كتاب “العرش”، وله كتاب “العلو”، والمسألة التي أعاد الكاتب فيها وأبدى وكفَّر فيها شيخ الإسلام وهي مسألة العلو وادعى عليها الإجماع أفردها الذهبي بالتأليف، ونقل فيها أقوال متقدمي الأشاعرة، وأنهم موافقون لمذهب السلف، وقد افتتح الذهبي كتابه العرش بقوله: “الحمد لله الذي ارتفع على عرشه في السماء، وجَلَّى باليقين قلوب صفوته الأتقياء، وبلى خلقه بالسعادة والشقاء”([56]). ونقل عن ابن فورك وأبي الحسن الأشعري إثبات العلو وتفسير الاستواء به، وعن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}. قال: “يقعده على العرش”([57])، قال الذهبي: “حتى إن عبد الله بن الإمام أحمد قال عقيب حديث مجاهد: “وأنا منكر على من رد هذا الحديث، وهو عندي رجل سوء، متهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت هذا الحديث من جماعة، وما رأيت أحدًا من المحدثين ينكره، وكان عندنا وقت ما سمعناه من المشايخ أنه إنما ينكره الجهمية”([58]). فهل الذهبي كافر أم مجسم أم قائل بالجهة؟
وما حكم متقدمي الأشعرية ممن نقل عنهم هذا الاعتقاد؟
وابن الهادي الذي يحفل به المؤلف كثيرًا هو مؤلف كتاب “الصارم المنكي في الرد على السبكي”، وقد تتبع قوله في الزيارة التي ادعى المؤلف عليها الإجماع ورد ابن الهادي كلام السبكي بألفاظه.
وابن كثير تلميذ ابن تيمية وقد أشاد به في كتبه وأثنى عليه، ووافقه في مسائل المعتقد التي ينقمها عليه مؤلف الكتاب، فقد أورد في البداية والنهاية رواية للإمام أحمد لحديث عباس ابن عبد المطلب وفيها “أَتُدْرُونَ مَا هَذَا قَال؟َ قُلْنَا: السَّحَابُ. قَالَ: وَالْمُزْنُ. قَالَ: قُلْنَا وَالْمُزْنُ. قَالَ: وَالْعَنَانُ. قَالَ: فَسَكَتْنَا، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قَالَ: قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خمسمائة سنة، وكشف كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بَيْنَ رُكَبِهِنَّ وَأَظْلَافِهِنَّ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثم على ظهورهم الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ من أعمال بني آدم شيء “([59]).
ونقل مثله عن الحافظ المزي([60])، وكل تلك النقولات عند مراجعتها لا يتضح منها إلا معتقد ابن تيمية وأتباعه فما وجه استثناء ابن كثير؟!
ثالثًا: التهويل في قضية الجهة والتجسيم: لقد هوَّل مؤلف الكتاب على ابن تيمية وحمل كلامه على اصطلاح المتكلمين، وألزمه مذهبهم، وأن القائل بالعلو قائل بالجهة، وقائل بالتحيز، ولم يستطع أن يأتي بنص في ذلك عن شيخ الإسلام يصرح بالتحيز أو بالجهة!
وإنما يقف عند الكتاب ولفظه وهو العلو، وكل ما أتى به المؤلف من التأويل لا يستقيم؛ فأحاديث القرب لا تنافي العلو بل القرب نسبي، وكذا المعية؛ لأنها بمعنى العلم كما هو بين في بابه، وهل الكاتب يتهم النبي صلى الله عليه وسلم على إقرار التشبيه والتحيز حين قال ابن رواحة:
شهدت بأن وعــــد الله حـــق … وأن النار مثوى الكافرينـــــا
وأن العرش فوق الماء طاف … وفوق العرش رب العالمينا
فضحك وقال: “غفر لك كذبك بتمجيدك ربك”؟!([61])
وكل الأوجه التي ذكرها في اللغة متعقبة؛ لأن السياق حكم ولا يمكن أن تكون آيات من المتشابه ثم تتكرر أكثر من عشر مرات في القرآن بلفظها ومعناها وكلها في مقام المدح.
وقد مرَّ معنا في نقول الذهبي أن إثبات الاستواء ثابت عن متقدمي الأشاعرة وهو إجماع السلف قبلهم، والمؤلف قد عاصر علماء أجلاء في هذا القرن منتسبون لمذهبه، ومنكرون لهذه الألفاظ المبتدعة ومنهم الشيخ محنض باب، وهو من هو في العلم ولا يقارن بصاحبنا، يقول الشيخ محنض باب:
ولم يرد في آية ولا خبر ولا كلام السلف الذي غبر
أن إله العرش ذا المعارج ليس بداخل ولا بخارج
أو أنه ليس بالاتصال متصفا ولا بالانفصال
أو غير ذا مما به بالغ في تنزيهه من فضلهم غير خفي
وأبعد الناس عن الكفر رجا ل آمنوا بما عن الرسول جا
من غير تشبيه لبارئ الورى جل جلاله بما له برا
ولو بدا أنهم قد وهموا غير معاندين في ما فهموا
ولا يسيء بأئمة الحدي ث الظن غير جاهل أو ملحد([62]).
فالمسألة خلافية بين المتقدمين ومن أراد المؤلف بهم التكاثر من المتأخرين، فمن الغريب أن يشنع في مسألة هو في اعتقادها غير مصيب، وهو أولى بالتماس العذر لنفسه من غيره، وحاصل ما لابن تيمة في مسألة التجسيم عند المتكلمين هو كالآتي:
- مخالفته لمفهوم الجسم عند أهل اللغة، وهي التي نزل بها القرآن، وخوطب بها الناس، والمعاني التي أحال إليها المتكلمون معاني مولدة لم تكن معروفة عند أهل اللسان وقت الخطاب.
- أنه لا يمكن بناء العقيدة إثباتًا أو نفيًا على هذا المفهوم الذي اختلف أصحابه فيه اختلافًا لم يصلوا فيه إلى شيء، هذا مع أنَّ ما نفوه خوفًا من التجسيم يمكن قلبه، فيقال لهم ما اثبتم من السمع والبصر والذات يمكن نفيه بنفس المنطق، وهو دعوى التجسيم!! وما كان هذا شأنه فلا يمكن استعماله في العقائد لتضاربه وكونه لا يفيد علمًا.
- مخالفة هذا المصطلح لطريقة السلف، فالسلف لم يرد عنهم أنهم حملوا الجسم على خلاف معناه اللغوي، ولم ينفوا الصفات، ولم يعتقدوا فيها أنها تفيد معاني لا تليق بالله فيلزم تأويلها أو تفويضها كما هو حال المتكلمين([63]).
رابعًا: المؤلف يحمل على ابن تيمية في مسائل ويدعي أن ابن تيمية قال فيها قولًا لم يبسق إليه، وادعى فيها إجماعا، ومن أمثلة ذلك: كروية الأرض حيث تعقب ابن تيمية فيها، وقال إن ابن تيمية لم يسبق إلى هذا القول مع أن المؤلف لو كان طالبًا للحق، مطلعا على تراث المسلمين، لعلم أن دعوى الإجماع فيها سابق على ابن تيمية، فقد حكى الأجماع عليها ابن حزم([64]).
وكذلك قضية فناء النار، فلم يأت بكلام لابن تيمية في المسألة، وإنما نزع إلى كلام ابن القيم والهراس في شرح الواسطية، ولم يثبت هل يقولون بفنائها أو يحكون الخلاف، ولم يبين فيها حقا من باطل، وبدأ يحكي إجماعا في مسألة لم يثبت قولهم بخلاف الإجماع فيها، وحاصل كلام ابن تيمية في المسألة أن له كلاما مجملًا وكلاما مفصلًا، فالأولى بصاحب الأمانة العلمية أن ينقل الكلام بكامله لا أن يجتزأ ويحيل إلى المناوئين، وها أنا آتيك بالكفاف من كلامه في المسألة قال رحمه الله: “وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم، ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار، والعرش وغير ذلك”([65]). وقال أيضًا: “ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءاً مطلقاً، ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك”([66]).
وهذه نصوص من الشيخ في محل النزاع والدعوى، ومثلها عن تلميذه ابن القيم رحمهما الله جميعًا؛ لكن ابن القيم ليس موضوع البحث إلا مؤلف الكتاب أدمجه حين لم يجد ما يدين به ابن تيمة في بعض الأبواب.
خامسا: قضية التسلسل ونسبة الأقوال للسلف:
وهذه مسألة لم يحررها مؤلف الكتاب، ولم يفهم وجهها من ناحيتين: الناحية الأولى: في حقيقة نسبة القول للسلف، والناحية الثانية: قضية التسلسل.
أما الناحية الأولى وهي: نسبة القول للسلف، فالظاهر أن المؤلف يتجاهل أمرًا معروفًا عند أهل العلم، وهو الذي على أساسه تأسست المذاهب، وهو ما يعرف بالتخريج، فكثير مما يقول أهل المذاهب أنه مذهب إمامهم يكون في الغالب تخريجًا على قول الإمام، وفي كتب الطلب في المحظرة يكرر الطلاب قولة صاحب المراقي:
إن لم يكن لنحو مالك ألف قول بذي وفي نظيرها عرف
فذاك قوله بها لمخرج وقيل عزوه إليها حرج([67]).
وشراح خليل عند قول خليل: “فقد سألني جماعة أبان الله لي ولهم معالم التحقيق، وسلك بنا وبهم أنفع طريق، مختصرًا على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى”([68])، يبينون أن التخريج أحد وسائل اعتماد الأقوال، قال العدوي: “تنبيهان:
الأول: يطلق المذهب عند المتأخرين من أئمة المذهب على ما به الفتوى من إطلاق الشيء على جزئه الأهم، كالحج عرفة؛ لأن ذلك هو الأهم عند الفقيه المقلد.
الثاني: المراد بمذهبه ما قاله هو وأصحابه على طريقته ونسب إليه مذهبًا؛ لكونه يجري على قواعده وأصله الذي بني عليه مذهبه، وليس المراد ما ذهب إليه وحده دون غيره من أهل مذهبه”([69]).
وابن تيمة رحمه الله قد بين طريقة نسبة الأقوال للسلف فقال: “النقل نوعان: أحدهما: أن ينقل ما سمع أو رأى. والثاني: ما ينقل باجتهاد واستنباط. وقول القائل: مذهب فلان كذا أو مذهب أهل السنة كذا قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله وإن لم يكن فلان قال ذلك. ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرًا. ألا ترى أنَّ كثيرًا من المصنفين يقولون: مذهب الشافعي أو غيره كذا ويكون منصوصه بخلافه؟ وعذرهم في ذلك: أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط لا من جهة النص”([70]).
الناحية الثانية: تسلسل الحوادث، وهذه قضية حادثة دقيقة ليست من أصول الدين ولا أمهات العقائد، فلو افترض أن ابن تيمية خالف فيها الصواب فليست مما يكفر به أو يبدع، وقد فطن الكاتب لضعف مأخذه فيها، وأن ما قاله محض تشنيع فعقد فصلا لقول ابن تيمة في البعث، ولم يأت فيه بنقل واحدٍ عن ابن تيمية؛ وإنما سجل اشتباه الأمر عليه في ابن تيمية، وأنَّه لم يتبين له هل هو موافق لمعتقد أهل السنة والحديث أم مخالف له؟
أليس للمؤلف علم وورع ينهيانه عن مثل هذه التمحلات والتنقيبات في التجريم والتخطئةّ؟!
سادسا: عقد المؤلف بابا بعنوان لهج ابن تيمية بسب عباد الله الصالحين، وعباد الله الصالحين هم ابن عربي وابن الفارض وغيرهم من أئمة الحلول، وهذا الفصل يكفي في إدانة المؤلف وتبيين انحراف منهجه، وأن منهجه ليس منهجا أشعريًّا سنيًّا كما يدعي، بل هو متستر بهم لتمرير باطله! فجلُّ من استشهد بهم يوافقون ابن تيمية في تضليل أئمة الحلول مثل ابن عربي وبن الفارض وغيرهم، ومنهم تقي الدين السبكي فقد قال عنهم: “ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وابن سبعين والقطب القونوي والعفيف التلمساني… فهؤلاء ضلال جهّال، خارجون عن طريق الإسلام، فضلًا عن العلماء”([71])، هذا وابن عربي مصرح بقدم العالم الذي ينكره مؤلف الكتاب على شيخ الإسلام وقد قال العز بن عبد السلام الأشعري عن ابن عربي: “شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا”([72])، وقد استقرأ أحد الباحثين من صرح من علماء المذاهب بتكفيره فزادوا على المائة([73]).
وإن تعجب فعجب أن يحتج على ابن تيمية بأبي العباس التيجاني الذي كفره أهل عصره، وشهدوا بضلالته، وما يفتخر به المؤلف من علماء شنقيط كانوا من أول من بادر إلى تكفير نحلته حين قدمت إلى أرضهم وألفوا في ذلك الكتب، ومن أشهرها: كتاب “الخارف الجاني في رد التيجاني الجاني” لابن ما يابى الشنقيطي.
سابعا: الكتاب نموذج للمصادرة والتقليد الأعمى، فالمصادرة ظاهرة حين يطلق من يرضى لنفسه مرتبة التقليد عبارات من نحو اتباع الهوى والتضليل والبدعة، وأحيانا التكفير، على عالم في مرتبة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وما ذاك إلا أنه خالف أقوالًا لعلماء ليسوا أعلم منه، ولا حجة عليه، والمدافع عنهم ليس في مرتبة أحد منهم وإنما يدافع تقليدًا.
فقد بدع الإمام بأمور لا تخرج عن مسألتين:
المسألة الأولى: أن تكون عقيدة المؤلف فيها مخالفة للكتاب والسنة ولعقيدة من سلف من الصحابة والتابعين، كما هو الحال في مسألة الصفات وتأويلها أو تفويضها وإلزام من خالف ذلك بأنه مشبه.
المسألة الثانية: أقوال مذهبية خلافية بين السلف، وكل ما في الأمر أن ابن تيمية نزع باجتهاده فيها إلى مخالفة المعتمد عند متأخري أهل المذاهب، ونصر قوله بالدليل، فيأتي المؤلف ليجعل المتأخر المقلد حجة على المجتهد المتبصر المحدث وهو خطأ علمي ومنهجي.
ثامنا: المؤلف ضحية من ضحايا كثيرة للوجبات العلمية السريعة!
وهو وإن أظهر أنه قرأ الفتاوى ونقل منها إلا أنه في كثير من نقده لم ينقل من الفتاوى وإنما نقل بالواسطة وعن الخصوم، وكثيرًا ما ينقل عن السبكي وعن الكوثري ولا يحيل إلى الفتاوى ولا إلى ما هو قريب منها وهذا خطأ منهجي، وما يحيل فيه إلى الفتاوى لا يستقيم إلا على تأويله هو ودعواه.
ومما يدل على عدم التفحص أن المؤلف حين عقد فصلًا في الرد على ابن تيمية في قضية الموقف من ابن عربي لم يكن مدركًا أن جميع من نقل عنهم يختلفون معه ويوافقون ابن تيمية ولم يكلف نفسه عناء تأويلهم.
ودليل ثان وهو أنه لم ينتبه في مسألة التأويل أن ابن حجر الذي يشيد به رد على الخطاب تأويله الأصابع، وتأويله ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبين هل هذا القول من ابن حجر تشبيه أو نزوع إلى طريقة ابن تيمية، فابن حجر بعد أن عرض أقوال المؤولة في حديث: “إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك”([74]) قال ابن حجر: “وقد اشتد إنكار بن خزيمة على من ادعى أن الضحك المذكور كان على سبيل الإنكار، فقال بعد أن أورد هذا الحديث في كتاب التوحيد من صحيحه بطريقه: قد أجل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف ربه بحضرته بما ليس هو من صفاته، فيجعل بدل الإنكار والغضب على الواصف ضحكًا، بل لا يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف من يؤمن بنبوته”([75]).
ولنا أن نتساءل حين يقرر الأشاعرة أن جمع أحاديث الصفات المتفرقة وجعلها في باب ليس له معنى إلا التشبيه.
فنقول ما ظن هؤلاء بالبخاري الذي أتى بها متوالية في كتاب التوحيد من صحيحه؟
تاسعا: الكتاب جمع من النقد ما تفرق في غيره والرد عليه جميعا يخرج الورقة النقدية عن موضوعها وحجمها، فالكتاب مواضيعه متشتتة وحسبنا أن نختم الكلام عليه بقاعدتين تهدمان بنيانه:
أولاهما: أن المحكم من القرآن والسنة هو الأغلب والأعم مصداق ذلك قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة آل عمران:7]. ولا يمكن أن تعدد الآيات والأحاديث بمعنى ثم يكون هذا المعنى غير مراد وغير لائق بالله سبحانه فذلك من المحال، فالاستواء واليد وغيرهما من الصفات كلها تتعدد معانيها بالقرآن لدرجة لا يمكن تأويلها، ولا ادعاء أنها غير لائقة؛ لأنها لا ترد إلا في مقام المدح ونفي النقص.
ثانيا: التأويل الذي يقبل في الشرع لا بد أن يستند إلى دليل ولذلك شروط منها:
أولا: أن يبين احتمال الكلام للمعنى الذي يريده لغة، ولابد، لهذا البيان أن يمر بمراحل:
- أن يحتمله اللفظ بوضعه، فيكون مستعملا فيه، كتفسير الاستواء بالإقبال، فإنه لا يعرف في لغة العرب([76]).
- أن يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية وجمع، فإن المعنى قد يحتمله اللفظ مفردًا لكنه لا يحتمله بالتثنية والجمع، كتفسير اليد بالقدرة، فإنها وإن احتملتها مفردة، فإنها لا تحتملها مثناة، كما في قوله تعالى: {قَالَ يا إبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين} [سورة ص:75]. فإنه لا يمكن أن تكون قدرتي، وكذلك من فسروا العين بالحفظ والرعاية، فإنها، وإن احتملت هذا المعنى مفردة، فإنها لا تحتمله في حالة الجمع.
- أن يحتمله السياق والتركيب، إذ قد يكون اللفظ محتملا للمعنى في سياقات أخرى.
- أن يكون المعنى مألوفًا استعماله في عهد المخاطب، بخلاف ما إذا كان المعنى حادثا بعده، كما فهم المتكلمون من الصفات الخبرية أنها تفيد التجسيم وغير ذلك([77]).
ثانيا: أن يبن الوجه الذي لأجله كان هذا المعنى هو المختار عنده.
ثالثًا: أن يقيم الدليل والقرينة الصارفة للكلام عن ظاهره، وهذه القرينة لابد أن تكون معلومة عند المخاطب مألوفة لديه، ولايكفي أن تكون معلومة إجمالًا، وأن تكون لفظية، وإن كانت عقلية؛ فلابد أن تكون ضرورية بدهية لا تخفى على السامع.
رابعا: أن يجيب عن دليل المعارض([78]).
وبدون الالتزام بهذه الضوابط يكون التأويل لعبًا وشغبًا وتحريفًا لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يظهر أن ما نحى إليه المؤلف في كتابه من الدلالة اللغوية للكلمة الواحدة ليس كافيًا بل هو مجرد تطويل، وحزٌّ في غير مفصل، وضرب في غير مقتل.
عاشرا: صاحب الكتاب عجز عن إثبات دعواه، منها نسبة ابن تيمية للتجسيم والتشبيه، وهذه مسألة لم يقم عليها دليلًا وكذلك عنون لموقف ابن تيمية من البعث وأراد أن يوهم أنه ينكره ولم يأت في الباب بشيء، ونفسه في مسألة عصمة الأنبياء والأخيرة من عجائب المؤلف، وقد نسب إلى ابن القيم أنه استتيب من الردة واعترف على نفسه وتاب ولم يثبت هذا النقل ولم يوثقه.
أخيرًا: مسألة تأثير الأسباب لم يفهمها المؤلف عند شيخ الإسلام وجعلها نظير قول الفلاسفة، وقد فصل شيخ الإسلام فيها بما لا يسع المقام لذكره، وقد كتبنا فيها بحثًا مفردًا، وقارنا فيه بين ما يراه شيخ الإسلام وما يراه الأشعرية واكتفينا بالإمام الغزالي([79]).
والكتاب يمثل التعصب للآباء والأجداد، وللعقائد، ويمثل الظلم والجور في حق المخالف، كما أنه خارطة طريقة للشبه حول ابن تيمية والطريقة التي يفكر بها خصومه التقليديون، وهي تعظيم أقوال أشياخهم والاعتزاز بها وجعلها مسامتة للنص، مساوية له، وهو أمر غير شرعي وغير مقبول، وما ترك من شبه الكتاب لعل المركز بإذن الله يتناوله في مقالات مفردة.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) فتاوى ابن تيمة في الميزان (ص: 10).
([10]) المرجع السابق (ص53: وما بعدها).
([12]) المرجع السابق (ص: 117).
([13]) المرجع السابق (ص: 118).
([14]) المرجع السابق (ص: 123وما بعدها).
([15]) المرجع السابق (ص: 142).
([18]) المرجع السابق (ص: 158).
([19]) المرجع السابق (ص: 169وما بعدها).
([20]) المرجع السابق (ص: 176).
([21]) المرجع السابق (ص: 184وما بعدها).
([22]) المرجع السابق (ص: 194).
([23]) المرجع السابق (ص: 220 وما بعدها).
([24]) المرجع السابق (ص: 232وما بعدها).
([25]) المرجع الساق (ص: 253وما بعدها).
([26]) المرجع السابق (ص: 254وما عبدها).
([27]) المرجع السابق (ص: 260وما بعدها).
([28]) المرجع السابق (ص: 261).
([29]) المرجع السابق (ص: 264).
([31]) المرجع السابق (ص: 271).
([32]) المرجع السابق (ص: 286).
([33]) المرجع السابق (ص: 288).
([34]) المرجع السابق (ص: 355).
([35]) المرجع السابق (ص: 366).
([36]) المرجع السابق (ص: 366).
([37]) المرجع السابق (ص: 368).
([38]) المرجع السابق (ص: 373وما بعدها).
([39]) المرجع السابق (ص: 277 وما بعدها).
([40]) المرجع السابق (ص: 383 وما بعدها).
([41]) المرجع السابق (ص: 394).
([42]) المرجع السابق (ص: 394).
([43]) المرجع السابق (ص: 401).
([50]) المرجع السابق (ص:449 وما بعدها).
([51]) المرجع السابق (ص: 453).
([52]) المرجع السابق (ص: 457 وما بعدها).
( [53]) المرجع السابق (ص: 467 وما بعدها).
([54]) المرجع السابق (ص: 478وما بعدها).
([55]) المرجع السابق (ص: 481 وما بعدها).
([57]) أخرجه الخلال في السنة (1/251)، والذهبي في العلو (ص: 99).
([59]) البداية والنهاية (6/11).
([62]) نظم المباحث الفقهية (ص: 35).
([64]) الفصل بين أهل الملل والنحل (2/78).
([66]) بيان تلبيس الجهمية (1/614).
([69]) شرح مختصر خليل للخرشي مع حاشية العدوي (1/35).
([70]) مجموع الفتاوى (11/137).
([71]) ينظر النجم الوهاج في شرح المنهاج (6/285).
([73]) ينظر: ابن عربي عقيدته وموقف علماء المسلمين منه (349- 706).
([76]) الصواعق المرسلة (1/184) .
([78]) ينظر: الصواعق المرسلة (1/188)، البحر المحيط (5/40)، إرشاد الفحول (1/250).
([79]) هذ رابط البحث: https://salafcenter.org/4397/