عرض ونقد لكتاب:(تكفير الوهابيَّة لعموم الأمَّة المحمديَّة)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
كل من قدَّم علمه وأناخ رحله أمام النَّاس يجب أن يتلقَّى نقدًا، ويسمع رأيًا، فكلٌّ يؤخذ من قوله ويردّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعملية النَّقدية لا شكَّ أنها تقوِّي جوانب الضعف في الموضوع محلّ النقد، وتبيِّن خلَلَه، فهو ضروريٌّ لتقدّم الفكر في أيّ أمة، كما أنَّ العملية النقدية نفسَها ليست معصومةً، فهي أيضًا يجِب أن توضع في الميزان العلميّ، وكثيرًا ما ينتقد الناس ما يجهلون، أو يجورون في أحكامهم، ويظلمون في آرائهم، وقد يكون هذا كله عمدًا وإصرارًا لمأربٍ في النفس، أو يكون سهوًا وخطأ وسوء فهم.
ومن أبرز الشخصيات التي قوبلت بالدِّراسة والتمحيص والتدقيق والنقد: الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد كتبت كتابات عديدة في دعوته، ومناقشة المسائل التي أثارها، وخدمة كتبه التي كتبها بشرح وتعليق وما إلى ذلك، كما كتبت كتابات عديدة في نقد منهجه وسيرته. والمطَلع على هذه النقدات يجد أنَّ منها ما اتجهت إلى الموضوعات والمسائل بطريقة علمية صحيحة، ويجد أن كثيرًا منها لا تحمل طابع العلميَّة في كثير من القضايا المطروحة، وهذا الكلام ليس جُزافا، بل بعد اطلاع على معظم تلك الدراسات، وليس يعني ذلك بأي حال أنه لا أحدَ يَنقُد نقدًا صحيحًا، فالنقد مرحَّب به، لكن القراءة المبتورة وتحوير الكلام وتحميل الكلام ما لا يحتمل هو المرفوض شرعًا وعَقلًا وعرفًا، وستبقى موضوعاتٌ هي محل اجتهاد وجدَل ونقاش طويل.
ومن تلك الكتب التي نقَدَت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه -بل والمنهج السلفيَّ عمومًا- هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي حمل الكثير من المفاهيم الخاطئة -عند الفحص والنظر- وقدَّم الكثير من الموضوعات بتصوير مبتور مشوّه، وهذا عرضٌ للكتاب ونقدٌ مجمل له:
بيانات الكتاب:
عنوانه: تكفير الوهابية لعموم الأمة المحمدية.
المؤلف: أ. د. علي مقدادي الحاتمي.
الناشر: دار النور المبين للنشر والتوزيع.
الطبعة: الأولى، سنة 2019م.
الهدف من الكتاب:
يريد المؤلف أن يصل بالقارئ إلى أنَّ الوهابية -كما يسميهم- يكفِّرون عموم المسلمين، هذه هي النتيجة الأهمُّ التي يريد الوصولَ إليها، وهو الهدف الذي وضع له تسعةَ فصول في كتابه هذا.
ومما يجب التنبيه إليه: أنَّ المؤلف حين يطلق الوهابية فإنه يريد أهل السنة والجماعة بالمفهوم الخاص الذي هو مخالف للأشاعرة والمعتزلة والماتريدية وغيرهم، ولا يقصد أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب وحدهم؛ ولذلك تجده يذم ابن تيمية وأحمد بن حنبل وابنه عبد الله والخلال وأعلام السلَف من قبلهم وبعدهم ممَّن سار على هذا المنهج.
والكتاب كله موضوع لبيان تكفير الوهابية لغيرهم؛ ولذلك جعل فصلَه الأول في تكفير الوهابية لعموم الأمَّة وآحادها في مسائل متفرقة، ثم ثنَّى بتكفير الوهابية للمعيّن، ثم بدأ يذكر تكفيرات خاصّة، كتكفير الوهابية للأشاعرة، وتكفيرهم للصوفية، وتكفيرهم للمتوسّلين، وهكذا، ويذكر في كل فصل أدلّته على قوله.
محتوى الكتاب:
بدأ المؤلف الكتاب بمقدمة عرض فيها ضوابط تكفير المعين، وبيان أنَّ الإنسان لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه، كما بيَّن هدفه من الكتاب وهو ما بينَّاه سابقا من محاولته إثبات أن الوهابية تكفر عموم الأمة.
ثم عرج في التَّمهيد إلى تسمية الوهابية وأن بعض أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب سموا أنفسهم وهابية، وفي الحقيقة لا أرى داعيًا لتسويد صفحات في حقيقة لفظة “الوهابية” ومن أطلقها أولا؛ ذلك أنها صارت عَلَمًا حتى وإن أطلقها أعداء الدعوة في بادئ الأمر، ومثل هذه المصطلحات قد يُراد بها الإشارة إلى المفهوم، أو يُراد بها الإساءة والتنقّص، وتعيين أحد المرادَين يرجع إلى القائل وسياقات الكلام وما إلى ذلك؛ ولذلك استخدمَ العلماء من أتباع الدعوة هذه اللفظة عند الإشارة أو بيان عقيدة أو منهج أو ما شابه ذلك؛ إيمانًا منهم بأنه لا مشاحة في الاصطلاح، مع التنبيه إلى أن كثيرًا من الإطلاقات لهذا اللفظ إنما تأتي على سبيل الذم والتنقّص.
ثم ذكر فصول الكتاب على النحو التالي:
الفصل الأول: تكفير الوهابية لعموم الأمة وآحادها في مسائل متفرقة:
بدأ المؤلف هذا الفصل بذكر خطورة التكفير، ثم أخذ يعرض أدلته على قوله، وهي المسائل التي يرى أن الوهابية([1]) قد كفروا عموم الأمة بها، والملاحظ هنا وفي كل الفصول القادمة أن المؤلف يسوِّد الصفحات الكثيرة في غير الموضوع الذي يريد الكتابةَ فيه، وإنما همُّه التشنيع فحسب، وهذا الأمر -بغضِّ النظر عن محتوى ما قاله وصحَّته- هو من التلبيس والتدليس؛ إذ يظن الظانّ أن هذه المسائل كلها تدخل في العنوان وهو تكفير عموم الأمة بهذه المسائل، وقد ذكر في هذا الفصل سبعًا وخمسين مسألة يستدلّ بها على أن الوهابية كفّرت عموم الأمة، وفيها أكثر من الثلثين من المسائل التي لا تمتُّ للتكفير بصلة كما سيأتي في بيان أخطاء الكتاب.
ومن الأمثلة التي أوردها في هذا الفصل للدلالة على أن أتباع محمد بن عبد الوهاب يكفرون عموم الأمة أنهم يكفِّرون الفقهاء، ويسمُّون الفقهَ شركًا، ثم سَرح بخياله بعيدًا ليقول: إن هذا يلزم منه تكفير الفقهاء السبعة! وسيأتي النص الذي اعتمَد عليه في نسبة هذا القول الغريب إلى محمد بن عبد الوهاب.
ويلاحظ أنَّه استند كثيرًا إلى مسائل كرَّرها أعداء الدعوة في حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب، حيث ادَّعوا أنه يكفِّر بها، فما كان من الإمام محمد بن عبد الوهاب إلا أن تبرأ منها، وقال فيها: سبحانك هذا بهتان عظيم! ولا ينقضي عجبُك حين تعرف أن عين تلك المسائل التي صرَّح فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب بأنه لا يكفِّر بها، وأن القول بأنه يكفر بها محض افتراء تجدها تتكرَّر في كتابات كلِّ الناقدين -بل الحاقدين- الذين لا ينقدون بموضوعية وإنصاف وعلم، يلوكونها دائما بأفواههم، ويصوغونها في عبارات وكلمات مختلفة، وهي هي عين ما اتُّهم بها في حياته، ومن ذلك: أنَّه يكفّر كل من لم يدخل تحت طاعته، وأنَّه سمَّى كل من لَم ينضوِ تحت رايته خارجيًّا ثم كفَّره، وأنه يكفِّر العلماء قبله، وهي كلها مسائل قال فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالة وجَّهها إلى من تصلُ إليه من المُسلمين: “سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: ما ذُكر لكم عنِّي أني أكفر بالعموم فهذا من بهتانِ الأعداء، وكذلك قولهم: إنِّي أقول: من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنَّه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضًا من البهتان؛ إنما المراد اتباع دين الله ورسوله في أي أرضٍ كانت”([2])، ويقول: “وأما الكذب والبهتان فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفِّر، ومن لم يقاتِل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدُّون به الناس عن دين الله ورسوله”([3]).
ومن المسائل التي ذكرها مؤلّف في بيان أنها من المسائل التي يكفِّر بها الإمام محمد بن عبد الوهاب: المولد، والتجسيم، والنهي عن لبس الشّرطة، وعن تعليم البنات، وغيرها من المسائل التي هي إما ليس فيها تكفير وهي ثلثا المسائل تقريبا، أو مسائل نفاها الإمام محمد بن عبد الوهاب عن نفسه، أو مسائل فيها الخلاف والنقاش والجدال، كمسائل الاستغاثة والتوسل غير المشروع، والتكفير فيها تكفير للقول لا للقائل إلا بالشروط المعروفة المعتبرة شرعًا، وهذه المسائل لم يختصَّ بها الإمام محمد بن عبد الوهاب، بل لم يختص بها أهل السنة من قبله، وإنما أنكرها كلّ عالم عرف الحق ودان به.
الفصل الثاني: تكفير الوهابية للمعين:
بدأه بذكر خطورة التكفير، ثم نصَّ على ما يريده من هذا الفصل وهو بيان تكفير المعين عند الوهابية، فقال: “وبرغم ما جاء في الكتاب العزيز والسنَّة المطهرة وفي أقوال أساطين العلم من التَّحذير من تكفير المعيَّن فقد جانب مدَّعو السلفية الصَّواب، وحكموا بألوان عديدةٍ من تكفيرات المعيَّن، سواء كان المعين فردًا أو جماعة”([4]).
ورغم أنَّ الفصل معقودٌ لبيان تكفير المعيَّن الذي من المفترض أن ينصَّ فيه على أناس بأعيانهم كفَّرهم محمَّد بن عبد الوهاب وأتباعه، إلا أنَّه سار على نفس منهج الفصل الأول، وراح يطرح قضايا عامَّة في التكفير لا يفهم منها إلا العموم، وإن كان ذكَر بعض الأمثلة على التَّكفير، فبدأ بالحسن الكرابيسي وأنَّه قد كفَّره الإمام أحمد بن حنبل، ومن العجيب أنَّه هنا جعله وهّابيًّا لأنَّه على نفس المنهج، ثم يذهب يدافع عنه ويبين أنَّ الوهابية لم تفهم كلامه، وأنَّها نسبت إليه ما هو بريء منه، وقد أفاض القول على الكلام النفسي عند الأشاعرة، وذكر حقيقته والأدلة عليه، ثم ذكر من الأمثلة: تكفير ابن القيم رحمه الله للإمام الترمذي لأنَّه تأوَّل حديثًا، فوصفه ابن القيم بأن تأويله من جنس تأويلات الجهمية، فعدَّ هذا تكفيرًا للترمذي.
وذكر المؤلف في هذا الفصل اثنتين وستين مسألة يراها أدلةً على تكفير المعين عند الوهابية، وهي إمَّا كذب صريح كتكفير الترمذي وأبي حنيفة، أو أنَّها ألفاظ عامَّة ليست لتكفير المعين، أو أنَّها في أناس معينين رأى محمد بن عبد الوهاب أنهم كفروا بعد أن قامت عليهم الحجة، وهؤلاء يكون النقاش فيهم في استحقاقهم للتَّكفير من عدمه وليس في أصل تكفير المعين من عدمه، فإنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأهل السنة والأشاعرة لا ينكرون تكفير المعين، فإذا وجد من كفَّر المعين ينتقل البحث معه إلى ما قام به هذا المعين هل هو مكفر أو لا؟ وهل قامت عليه الحجَّة أم لا؟ وهل تحققت شروط التكفير وانتفت موانعه أم لا؟ وبناء عليه نعرف إن كان هذا التكفير صحيحًا شرعًا أو لا، ثم يبنى عليه القول بأن هذا الشخص مكفر إذا كان كل -أو جلُّ- تكفيره خاطئًا، وهو ما لم يفعله المؤلف، بل اكتفى بذكر أنه كفر فلانًا وفلانًا، فهل المؤلف ممن يرى أنه لا يوجد كفر البتة، وأن من دخل دين الإسلام لا يخرج منه مهما قال وفعل؟!
الفصل الثالث: تكفير الوهابية للأشاعرة:
بعد أن فرغ من ذكر أنَّ الوهابية تكفِّر المعين شرع في هذا الفصل ببيان أن الوهابية قد كفرت الأشاعرة، فبدأ بذكر السرد المعروف بادعاء الأكثرية، وعطف أسماء كثيرة بعضها على بعض للدلالة على أنَّ جل علماء الأمة أشاعرة وماتريدية([5])، ثم نقل نقولا عن أبي الحسن وأنه لم يبتدع في الدين، وأنَّه هو وأتباعه هم أهل السنة، وأن التأويل ليس باطلًا، فقد مارسه الصحابة الكرام ومن جاء بعدهم.
ثم بعد هذه المقدمة الطويلة بدأ يذكر تكفير الوهابية للأشاعرة، فقال: “وبرغم ما تقدم من كون الأشاعرة يشكلون السَّواد الأعظم من أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم فقد عكف المتمسلفون على تكفيرهم وتبديعهم وتفسيقهم حتى لم يبقوا على الإيمان إلا من كان منهم أو على شاكلتهم”([6])، ويقول: “وبرغم ما سبق بيانه فقد أصرَّ المتمسلفون على تكفير الأشعرية”([7]).
ومن ينظر هذا الفصل سيجده أكثر غرابة من الفصلين السابقين، وحقَّ له ذلك؛ إذ إن الأشاعرة وسائر الطوائف تعرف موقف أهل السنة من الأشاعرة، وأنهم لا يكفرونهم، بل يبينون حسناتهم، وأنهم من الطوائف القريبة إلى السنة بل أقربها؛ ولذا ستجد أن الأمثلة التي أراد المؤلف أن يذكرها في تكفير الأشاعرة كلها أمثلة غريبة الاستدلال، يعرف طالب العلم المبتدئ عدم دلالتها على التكفير فضلًا عن أن يخطئ فيها دكتور مثل المؤلف، وقد ذكر تسعةً وأربعين دليلًا منها: أنَّ أهل السنة السلفية رفضوا إدخال الأشاعرة في أهل السنة والجماعة، وأنهم بينوا أنَّ الأشاعرة خالفت الكتاب والسنَّة وسلف الأمة، وأنهم أخطؤوا في تعريف التَّوحيد، وأنهم تأولوا نصوص الكتاب والسنَّة مع القول بأن تأويلاتهم مخالفة لما كان عليه السلف، وأنَّهم قالوا عن الأشاعرة بأنهم يعطلون الصفات، ويلزم من قولهم تشبيه الله بالمعدومات، إلى آخر هذه المسائل المختلف فيها بين أهل السنة والأشاعرة، ونحن وإن سلمنا تنزلًا أن هذه كلها قيلت في الأشاعرة فأين تكفيرهم في ذلك؟! وهي كلها مسائل خطَّأ فيها أهلُ السنةِ الأشاعرة، وذكروا بدعيتها، لكنها بعيدةٌ كل البعد عن التكفير.
وقد طفق المؤلف يسوِّد صفحات كثيرة في بيان تبديع الأشاعرة، ويبني عليه أن هذا تكفيرٌ لهم، وأن الوهابية كفرت الأشاعرة الذين هم معظَم الأمة في نظره، فهو فصل -مع طوله- لا يقدِّم شيئًا حول الموضوع المراد بحثه، إلا ما ذكره في آخر مسألة، وهو ذكره لكتاب: “تكفير الأشاعرة” لخالد المرضي، وكان من الإنصاف أن يذكر عشرات -بل مئات العلماء- من أهل السنة ممن تكلموا عن الأشاعرة ولم يكفروهم، بل نصُّوا على عدم تكفيرهم، ولا يحتج لمسألة كهذه بذكر صفحتين من كتاب لكاتب لم يعرف بكونه عَلَمًا، فكيف يجعل كلامه هو كلام الوهابية مع كون كلامه مخالفًا لسائر تقريرات السلفية الوهابية، وما التمثيل بهذا إلا دليل على إفلاس علمي في جانب وجود الأدلة على تكفير الأشاعرة؛ حيث لم يجد المؤلف طوال هذه السنين إلا هذا الذي خالف هو مذهب أهل السنة في قضايا التكفير والعذر بالجهل.
الفصل الرابع: تكفير الوهابية للمتكلمين:
بدأ المؤلف هذا الفصل بمدح علم الكلام، وأن المتكلمين هم من قاموا بالدفاع عن العقائد، ثم ذكر أن الوهابية قد كفَّرت المتكلمين، واستدل على ذلك بعشرة أدلة من جنس أدلة الفصول السابقة، منها أنَّ ابن تيمية أنكر عليهم عدم الأخذ بالآحاد، وأنَّه اتهمهم بأنهم دخلوا في بعض الباطل المبتدع، وأن منهجهم مخالف للكتاب والسنة.
فهي أدلة كما ترى لا ترقى لبيان أنَّ الوهابية كفروا المتكلمين، ومن العجيب أن المؤلف يأتي إلى نصوص السلف في ذمِّ الكلام فيصرفها كلها إلى المعتزلة، يقول: “والحق أن كلام من نهى عن علم الكلام لا يصب إلا في مصب أهل الأهواء الذين هم أصحاب البدع والضلالات التي يدعون إليها ويقدمونها على الشرع الحنيف، وخاصة البدع الاعتقادية كبدع الخوارج والمعتزلة والمرجئة والمجسمة”([8])، ويقول: “ومن المعلوم أنَّ الشافعي وغيره لا يقصدون بكلامهم المتكلمين من أهل السنَّة، وإنما قصدوا به المعتزلة”([9])، فيا ليت شعري أين هذا التخصيص من كلامهم؟!
الفصل الخامس: تكفير الوهابية للمتوسِّلين:
قدم المؤلف هذا الفصل لبيان أنَّ الوهابية تكفِّر المتوسلين بالأنبياء والصالحين، فبدأ الفصل بقوله: “لقد تمادى مدعو السلفية في تكفيرهم لعموم الأمَّة المحمدية، ومن تكفيرهم لعموم الأمة: تكفيرهم المتوسلين إلى الله تعالى بالنَّبي صلى الله عليه وسلم”([10]). وهذا أول الكذب أو الخطأ الذي لا ينبغي أن يقع فيه مثله، ويقول: “فتراهم يكفرون كل من قال: اللهم إني أتوسل إليك وأسألك بجاه -أو بحق- حبيبك محمَّد صلى الله عليه وسلم أن تقبل توبتي وحوبتي، فهذا عندهم كافرٌ حلال الدم يستحق القتل“([11]). والكذب الذي وقع فيه -أو لنقل: الخطأ الذي وقع فيه- والذي لا ينبغي أن يقع فيه مثله هو خلطه بين التوسل المشروع وغير المشروع، وخلطه بين التوسل المنهي عنه والتوسل الذي هو كفر، فتراه يخلط بين قول الإنسان: اللهم إني أتوسل إليك يجاه نبيك صلى الله عليه وسلم، وبين أن يأتي إلى القبر ويدعو صاحب القبر نفسه بأن يقضي حوائجه؛ فيجعل الصورتين صورة واحدة، ويستدل على أن الوهابية يكفرون في الأولى بنصوص وردت في الثانية، وشتان بين المسألتين، وسيأتي بيانه في النقد.
ويزيد على هذا الخطأ خطأ غريبًا آخر، فيجعل ابن تيمية رحمه الله محرمًا لزيارة القبور، فيقول: “ويعتبر زيارة القبور زيارة بدعيَّة شركية، يقول: (وأما الزيارة البدعية -وهي زيارة أهل الشرك من جنس زيارة النصارى الذين يقصدون دعاء الميت والاستعانة به وطلب الحوائج عنده، فيصلون عند قبره ويدعون به- فهذا ونحوه لم يفعله أحد من الصحابة، ولا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحبَّه أحد من سلف الأمة وأئمتها)([12])“، ثم ذكر خطأ هذا القول([13])، بل يدّعي أنَّ ابن تيمية رحمه الله “اعتبر زيارة القبور بما فيها قبر سيدنا رسول الله زيارة بدعية شركية من جنس زيارة النصارى الذين يقصدون دعاء الميت… وهذه منه مجازفة خطيرة… وأما عن زيارة قبور الموتى فهي سنة مستحبة”([14]). ثم ذكر أدلة كثيرة كلها في غير محلها، فلم ينكر ابن تيمية ولا غيره زيارة القبور ولم يحرمها.
وينبه إلى أنَّ القضية كلها قائمة عنده على مسألة أن الشرك لا يكون إلا باعتقاد النفع والضر في المتوجَّه إليه، وقد ختم فصله بأدلة جواز البناء على القبور، وأدلة جواز التوسل.
الفصل السادس: تكفير الوهابية للصوفية:
بدأ هذا الفصل بمدح التَّصوّف وأن أصوله في الكتاب والسنة، وقد كان العنوان: تكفير الوهابية للصوفية، إلا أنَّه أورد أن الوهابية اتهموا المتصوفة بأنهم مكَّنوا البلاد المستَعمَرة من الاستعمار، ثم ذكر أن الوهابية تكفرهم وتبدعهم، ونقل نصوصًا عديدة في تبديعهم كعادته، فكلها نصوصٌ لا يفهم منها التكفير.
الفصل السابع: تكفير الوهابية للعثمانيين:
الفصول الأربعة الأخيرة من أقصر الفصول في الكتاب، فقد نقل عدة نقول فيها بيان لضلالهم، والحروب التي قامت بين أتباع محمد بن عبد الوهاب والعثمانيين، وبيان عدم جواز نصرتهم على أتباع الشيخ محمد.
الفصل الثامن: تكفير الوهابية للمعتزلة:
بدأه بذكر نبذة عن المعتزلة وأنَّ الجمهور على أنهم مسلمون، وذكر أصولهم الخمسة، وقد بنى تكفير الوهابية للمعتزلة على أنهم يقولون بكفر من أنكر رؤية الله في الآخرة، ومعلوم أن هذا كلام عام، وليس تكفيرًا للمعتزلة بأعيانهم، خاصة وأن المعتزلة لم تختص بهذا النفي.
الفصل التاسع: تكفير الوهابية للإباضية:
وقد اعتمدوا في ذلك على هذا النص الذي ورد في الدرر السنية، وهو: “وأما الإباضية في هذه الأزمنة فليسوا كفرقة من أسلافهم، والذي يبلغنا أنهم على دين عباد القبور، وانتحلوا أمورًا كفرية لا يتسع ذكرها هنا، ومن كان بهذه المثابة فلا شك في كفره، فلا يقول بإسلامهم إلا مصاب في عقله ودينه”([15]). وترى في هذا النَّص أنَّهم قالوا: إنَّهم ليسوا كالسابقين، أي: أن الأصل هو عدم تكفير الإباضية، فهم لم يكفروا الإباضية السابقين، ثم جاء في المعاصرين فبينوا أنَّه تُنقل عنهم أشياء كفرية، فإن كانت صحيحة تكفر بالعموم من جنس القول بتكفير الأقوال والأفعال العامة، وهذا القول لا يفهم منه تكفير الإباضية أولا، إذ إن غاية ما فيه التأكد من وقوع الكفريات منهم، وكذلك هو تكفير بالعموم إذا ثبتت فليس تكفيرا للمعين، وهو من جنس تكفير بعض السلف للجهمية كفرقة.
وهذا كان نهاية الكتاب.
الأخطاء المنهجية في الكتاب:
اشتمل الكتاب على نصوص عديدة، وقد بينا أن هدف الكاتب هو: بيان تكفير الوهابية لعموم الأمة، وقد عقد لذلك تسعة فصول ذكر في كل فصل نوعًا من التكفير مع ذكر أدلة على ذلك، وهذه الأدلة التي ذكرها كثيرة لا يمكن مناقشتها دليلًا دليلًا إلا في كتاب يماثله في الحجم، ومع ذلك فقد احتوى الكتاب جملة من الأخطاء المنهجيَّة، سنعرج عليها، ثم نبين بعض الأخطاء الفرديَّة في كل فصل من الفصول:
أولًا: التَّلبيس والإيهام، فإنَّ المؤلف قد حشد الكلام الكثير في غير موضعه المناسب له، وهذا أقل أحواله أنَّه خطأ ما كان ينبغي أن يقع فيه دكتور مكثر من التأليف كمؤلف الكتاب، إلا أنَّه قد مرت بنا أمثلة كثيرة في ذكر عنوان للفصل وذكر أمثلة وأدلة كثيرة ثُلثاها بل أكثر لا يخدم العنوان، وليس له علاقة به، بل يمكن القول: إن هذا هو صنيعه في كامل الكتاب، ففي الفصل الأول مثلًا يتحدّث عن تكفير الوهابية لعموم الأمة وآحادها في مسائل متفرقة، أي: أنه يريد ذكر مسائل متفرقة كفَّر بها الوهابية عموم الأمة، فما علاقة موضوع لبس الشرطة، والتحية العسكرية، ونهي الرجال عن التصفيق، وتحريم التصوير، وجواز أكل اللحم إذا كان مخلوطًا بدم غير مسفوح، وتحريمهم التمائم، والسفر إلى بلاد الكفار، والمولد، وقضية الإجلاس على العرش، ما دخل هذه كلها بمسائل التكفير؟! وهذه كلها مسائل لم يكفّر بها أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب، وذكرها كأدلة على التكفير.
ومن التلبيس والتدليس أنَّه يعمد إلى أضعف الأدلة فيذكرها، فقد تعرض في كتابه إلى عدد من المسائل، وانتصر للمذهب الأشعري فيها، وفي نقاشه للسلفية يورد أضعف أدلّتهم فيردّ عليها، ومن ذلك مثلًا: حين عرض مذهبه في الكلام النفسي جاء يبين مذهب الوهابية فقال: “الناظر كذلك يجد أن القوم استشهدوا على ما ذهبوا إليه من إثبات الصوت لله تعالى بثلاثة أحاديث ضعيفة وواهية”([16]). وبغضّ النظر عن الموافقة على تضعيفها أو لا، لِمَ لم يورد إلا هذه الثلاثة وترك الأدلة الصريحة الأخرى التي يذكرونها؟!
ومن التَّلبيس والإيهام أن يتحدث عن تكفير المعين، فيورد نصوصًا عديدة في التكفير بالعموم وتكفير الأقوال والأفعال، ثمَّ يجعلها تكفيرًا للمعيَّن([17])، فيجعل تكفيرهم لمن يدعو غير الله -مثلًا- بأن هذا تكفير لعَين كلّ متوسّل، ويعني ذلك تكفير كثير من المسلمين، وهذا لم يقل به السلفية، بل فرقوا بين التكفير بالعموم والتكفير العيني، وتقريرهم لذلك كثيرٌ جدا، وحقيقة ذلك أنَّ العلماء إذا قالوا: كفر الجهمية، أو كفر القبورية، أو كفر منكري الصفات، فإن هذه نصوص عامة يريدون بها العموم، ويعرِف هذا كل من قرأ لهم وعرف منهجهم؛ ولذلك حكى ابن تيمية أنَّ بعض السلف يكفرون الجهمية، لكن حين يصير الحديث إلى المعين يتوقفون، ولا يعممون هذا الحكم على الجميع، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله في نصٍّ صريح واضح: “ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعون له ويستغفرون له؛ لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرًا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين”([18]).
ومن التلبيس والإيهام أنه يورد مسائل يدعي أن الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه كفروا بها أو تلبسوا بها، ثم لا يذكر النَّص وإنما يشير إليه في الحاشية، هذا مع شدة حرصه على ملء كتبه بالنصوص وإكثاره من ذلك لداعٍ وغير داع، ومن ذلك مثلًا قوله: “كفر ابن سحمان قبيلة القحطان بعامَّة بسبب تحاكمهم إلى الأحكام القبلية”([19])، ولم ينقل النص، وحين الرجوع إلى الحاشية نجد الآتي: “الطاغوت ثلاثة أنواع: طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة؛ والمقصود في هذه الورقة هو طاغوت الحكم، فإن كثيرًا من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام قد صاروا يتحاكمون إلى عادات آبائهم، ويسمون ذلك الحق بشرع الرفاقة، كقولهم: شرع عجمان، وشرع قحطان، وغير ذلك، وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمر الله باجتنابه”([20]). وقد أورد المؤلف هذا في ذكر تكفير المعين، فمن الذي يفهم أن هذا تكفير لعين كل فرد من هذه القبيلة؟! وهل هو إلا مثال للتمثيل على الحكم بغير ما أنزل الله كأن يقال: احكموا بما أنزل الله ولا تحكموا بما يقال: إنه قانون كذا، ثم ذكر دولة معينة، فهل هذا تكفير لتلك الدولة؟!
ثانيًا: أنه ذكر التكفير بما ليس بمكفر، فقد ذكر عن الوهابية أنهم يكفرون عموم الأمة، وعقد فصولًا على تكفير عدد من الفرق، ومع ذلك فقد أكثر من ذكر أمور لا علاقة لها بالتكفير، ولا يكفر بها السلفية إطلاقًا، وليس هذا بخافٍ عليه حتى يقال: لعل في المسألة خلافًا في التكفير فأوردها، بل أورد مسائل ليست مكفرة عند السلفية بالإجماع، ومثل هذا يقع إما تكثيرًا للصفحات دون طائل، أو تدليسًا وتلبيسًا على الناس بإيهامهم بأن الأدلة كثيرة على تكفير الوهابية لغيرهم، وهذا الصنيع هو من الافتراء على الآخرين، ومناقض للموضوعية التي يتشدَّق بها ويدَّعي أن الوهابية يفتقدونها، ومن ذلك أنه في كل الفصول المعقودة لبيان تكفير الوهابية لبعض الفرق حشد نصوصًا عديدة في تبديع هذه الفرق، وليس فيها ما يكفرها، ومن ذلك أنه يرى أن القول بأن الجماعات المخالفة لأهل السنة من الفرق التي تدخل في الثنتين والسبعين فرقة أن هذا تكفير لتلك الفرق([21])، ومن المعلوم أن الراجح عند أهل السنة والجماعة أن الفرق التي تدخل في الفرق الثنتين والسبعين هي من الفرق الإسلامية، فهو إذا عكس فهم المؤلف تمامًا، وهو يفعل ذلك مرارًا وتكرارًا في كتابه.
ثالثًا: بتر الكلام، فقد وقع المؤلف في بترٍ للكلام في عدة مواضع، وهو في أحسن الأحوال -إن لم يكن متعمدًا- خطأ فاحش، ومن ذلك أنه يقول -مثلًا- في بيان تكفير عموم الأمة عند الوهابية: “كفروا كل من سماهم بالخوارج، فقد جاء في الدرر السنية: (من سماهم الخوارج فهو الكافر حقا الذي يجب قتاله حتى يكون الدين كله لله بإجماع المسلمين كلهم)”([22])، وهذا بترٌ عجيب، فقد أخذ من الكلام ما يوافق مراده فقط، ونصُّ الكلام في الدرر السنية كالآتي: “وهذا معنى قول العلماء: من أنكر فرعًا مجمعًا عليه كفر، فإذا كان من أنكر النهي عن الأكل بالشمال أو النهي عن إسبال الثياب بعد معرفته أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فهو كافر مرتد ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم، فكيف بمن أنكر إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الدعوة والاستغاثة والنذر والتوكل وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده، ولا يصلح منها شيءٌ لملك مقرب ولا نبي مرسل، التي أرسل الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه لأجل معرفتها والعمل بها، التي هي أعظم شعائر الإسلام الذي هو معنى لا إله إلا الله؟! فمن أنكر ذلك وأبغضه وسبه وسب أهله وسماهم الخوارج فهو الكافر حقًّا، الذي يجب قتاله حتى يكون الدين كله لله بإجماع المسلمين كلهم؛ والله سبحانه أعلم”([23]). فالتكفير ليس من أجل أنهم سموا الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه خوارج، وإنما لإنكارهم إخلاص العبادة لله كما ذكر في النص، فأخذ المؤلف من النص آخر جزئية حتى يبرر لموقفه وهو يضع أحد الأدلة على أن الوهابية تكفر بالعموم.
ومن بتر الكلام بل من فهم الكلام فهمًا غريبًا: أن المؤلف نسب إلى ابن تيمية أنه ينهى عن زيارة القبور ويعتبرها زيارة بدعيَّة شركيَّة، يقول: “ويستمر ابن تيمية في تدليسه، فيزعم أنَّ التوسل لم يقل به أحد من السلف، ولم يفعله أحدٌ من الصحابة، ويعتبر زيارة القبور زيارة بدعيَّة شركيَّة، فيقول: (وأمَّا الزيارة البدعيَّة -وهي زيارة أهل الشرك من جنس زيارة النصارى الذين يقصدون دعاء الميت والاستعانة به وطلب الحوائج عنده فيصلون عند قبره ويدعون به- فهذا ونحوه لم يفعله أحدٌ من الصحابة، ولا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها)([24])“([25])، ثم يقول ردًّا عليه: “إنَّ ابن تيمية اعتبر زيارة القبور -بما فيها قبر سيدنا رسول الله- زيارة بدعيَّة شركية، من جنس زيارة النصارى الذين يقصدون دعاء الميت… وهذه منه مجازفة خطيرة… وأما عن زيارة قبور الموتى فهي سنة مستحبة”([26])، ثم طفق ينقل أدلة كثيرة على استحباب زيارة القبور، وكل ذلك ليس في موضعه، فإنَّه من الواضح جدًّا أنَّ ابن تيمية يتحدث عن نوع معين من الزيارة للقبر، وبما أنه نقل النَّص فإن الصفحة التي تسبقها فقط فيها كلام ابن تيمية رحمه الله، يقول: “أمَّا زيارة القبور فهي على وجهين: شرعية وبدعية، فالشرعية: مثل الصلاة على الجنازة والمقصود بها الدعاء للميت كما يقصد بذلك الصلاة على جنازته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع ويزور شهداء أحد”([27]). وحتى إذا غفل المؤلف عن الصفحة السابقة فإن مجرد قول ابن تيمية: “وأما الزيارة البدعية” يعني أن هناك زيارة غير بدعية، فلم إخفاؤه؟!
رابعًا: أنه لا يفهم الموضوع فيَهِيمُ فيه بعقله ورأيه، والموضوع بعيدٌ عن مراده، وهذا يحصل كثيرًا في الكتاب، فيأتي بنصوص لا تدل على الموضوع الذي يريد بيانه، أو أنه يستنبط معنى بعيدًا جدا عن المراد ثم يبدأ يشنع على ذلك المعنى وهو غير مراد أصلًا، ومن ذلك مثلًا أنه يدعي أن الإمام محمد بن عبد الوهاب كفَّر الفقهاء، ثم يذهب بخياله بعيدًا ويقرر قيمة الفقه والفقهاء، وأن هذا القول تكفير للفقهاء السبعة، بينما نجد النَّص يقول فيه محمد بن عبد الوهاب: “{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 31]، فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده بهذا الذي تسمونه الفقه، وهو الذي سماه الله شركا واتخاذهم أربابًا، لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافا”([28]). ومراد الشيخ يتبين من بداية الرسالة، حيث إنه أرسلها إلى عبد الله بن عبد الوهاب بن عيسى يبين فيها أن من الناس من يأخذ بأقوال أناس معينين، ولا يخرجون عنه ولو تبين له الدليل خلاف كلامه، وهذا من جنس اتخاذ الرهبان الذين يلتزم أتباعهم بعدم الخروج عن كلامهم البتة، فهي مشابهة من هذه الجهة.
ومن عدم فهمه أنه يربط تكفير الأشاعرة بأن أهل السنة يكفرون المعطلة، وأنهم أحيانا يسمون الأشاعرة معطلة، فهذا تكفير لهم، وهذا تحميل للقول ما لا يحتمل، فإنه من المعلوم أن أهل السنة يقصدون بالمعطلة الجهمية، وإنما يدخلون الأشاعرة أحيانا في مجمل الاسم لأنهم يعطلون الصفات الاختيارية، ومع ذلك فقد مر بنا أن تكفير الجهمية لا يعني تكفير المعين منهم، وهذا ربط بعيد من المؤلف في التكفير، كما سبق بيان أنه ربط تكفير ابن القيم للترمذي بأنه قال عن تأويله: إنه من جنس تأويلات الجهمية، والجهمية كفرهم السلف، فيلزم منه تكفير الترمذي!
ومن التصور الخاطئ للكلام أنه قال: “كفروا كل من لم يُدخل العمل في الإيمان، وفي ذلك قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما)([29])، وهو بهذا يدخل العمل في الإيمان بمعنى أنه إن فقد العمل ذهب الإيمان، مع أن الإيمان هو التصديق، وهو عمل القلب، ولا علاقة للجوارح به، وكلامه يدخل مئات الملايين بل أغلب الأمة في الكفر”([30]). فانظر إلى هذا الفهم السقيم الذي يظن من خلاله أن إدخال العمل في مسمى الإيمان يعني التكفير بترك أي عمل كان؛ ولذلك يدعي أن هذا يلزم منه تكفير مئات الملايين من المسلمين!
ومن ذلك أيضًا: ما ذكره من تكفير المتكلمين، وقد تمسك فيه بقول ابن تيمية رحمه الله: “ولا ريب أن هذا عمدة كل زنديق ومنافق يبطل العلم بما بعث الله به رسوله”([31])، وكان حديثه عن المتكلمين، إلا أنه ليس فيه تكفير لهم، فابن تيمية كان يتحدث عن رد أحاديث الآحاد، ويبين أن هذا الفعل عمدة كل زنديق، فكون فعل يفعله المتكلمون هو عمدة زنادقة لا يعني أنهم هم زنادقة، ثم إنه تكفير للفعل لا الفاعل.
ومن أكثر المواضع التي خلط فيها وفهم فهمًا خاطئًا: موضوع التوسل، فإنه خلط بين قول الإنسان: اللهم إني أسألك بجاه نبيك، وبين أن يأتي إلى قبر ولي أو أحد فيدعوه هو ويطلب منه قضاء الحاجات، فأخذ كلام السلفية عن الثاني ووضعه في الأول، وقال: كفروا من سأل الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول: “فتراهم يكفرون كل من قال: اللهم إني أتوسل إليك وأسألك بجاه أو بحق حبيبك محمد أن تقبل توبتي وحوبتي، فهذا عندهم كافر حلال الدم يستحق القتل”([32])، ثم بدأ يذكر نقولات عن ابن تيمية، وكلها في طلب الحوائج من الميت، فشتان بين الاثنين، ويدعي أن الإمام محمد بن عبد الوهاب متناقضٌ بينما هو لم يفهم هذا التفريق، فقد نقل قول الإمام محمد بن عبد الوهاب: “قولهم في الاستسقاء: لا بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع قولهم: إنه لا يستغاث بمخلوق، فالفرق ظاهر جدًّا، وليس الكلام مما نحن فيه؛ فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه، فهذه المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور: إنه مكروه، فلا ننكر على من فعله؛ ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن إنكارنا على من دعا لمخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى، ويقصد القبر يتضرع عند ضريح الشيخ عبد القادر أو غيره، يطلب فيه تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصًا له الدين، لا يدعو مع الله أحدًا، ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك، أو بالمرسلين، أو بعبادك الصالحين، أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده، لكن لا يدعو إلا الله مخلصًا له الدين، فأين هذا مما نحن فيه؟!”([33])، ثم قال: “مع أن ابن عبد الوهاب حكم بكفر المتوسلين كما نقلنا عنه في غير ما موضع، فهم في كلامهم متناقضون”([34])، فالكلام الذي يدّعي أنه موجود للإمام -وكذلك من قبله لابن تيمية- إنما هو في دعاء غير الله، وليس السؤال بجاه الأنبياء، وقد فرق بينهما محمد بن عبد الوهاب تفريقًا واضحًا.
خامسا: يبني مسألة عظيمة كالتكفير على إلزامات بعيدة، وقد مر بنا الحديث عن ادعائه تكفير الأشاعرة لأن السلفية تكفر المعطلة، وتكفير ابن القيم للترمذي يقول فيه: “قال ابن القيم: (وأما تأويل الترمذي وغيره بالعلم فقال شيخنا: هو ظاهر الفساد، من جنس تأويلات الجهمية)… ومن المعلوم أن الجهمية في معتقدهم كفار”([35])، فهذا إلزام بالتكفير من وجهٍ بعيد، وأنى لابن القيم أن يكفر الترمذي أو أن يطرأ على باله؟!
ومن ذلك بيان تكفير الأشاعرة والمتكلمين والصوفية وغيرهم بذكر بدعهم، وإخراجهم من دائرة أهل السنة والجماعة، وبيان أنهم خالفوا الكتاب والسنة([36])، فإن هذه الأمور لا يلزم منها التكفير، إلا إذا ربط ذلك بأمور بعيدة بأن يكون مخالفا للكتاب كله من أوله إلى آخره، وهو ما لا يفعله حتى الكافر الأصلي؛ إذ لا يخلو من خلق أو شعيرة هي من العبادات في الدين!
وأخيرًا: هذه بعض الأخطاء المنهجية في الكتاب، ولتفصيل الحديث فيما ورد فيه من أخطاء ومخالفات يحتاج إلى ورقات أكثر من هذه، وإن كان الكتاب البالغ عدد صفحاته قرابة السبع مائة كان يمكن أن يكون في ثلث هذا العدد لو أنه التزم بمنهجيّة علمية، فإن ثلثي الكتاب تقريبًا في استطرادات وذكر أمور لا تدلّ على المراد؛ كذكر التبديع والتفسيق والتخطئة والإنكار لبيان أن هذا تكفير!
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) سأستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب وكان على نفس المنهج حتى لا تكون الكلمة الواحدة ذات مرادين في مقال واحد، فهي كلمة تستخدم للإشارة إلى منهج وأناس محددين فقط.
([2]) ينظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 131).
([3]) ينظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 140).
([5]) ينظر في مناقشة هذا القول الورقة العلمية التي أعدها مركز سلف، وهي على الرابط التالي:
الأشاعرَةُ المُعاصِرون ومعياريَّة الحقّ هل أكثر عُلمَاء الأمَّة أشَاعِرَة؟
([12]) مجموع الفتاوى (24/ 327).
([15]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 438)، وهو نص لعبد الله وإبراهيم ابني الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله تعالى.
([17]) ينظر: الكتاب (ص: 192، 189، 195).
([18]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 10).
([20]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 503).
([23]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 181-182).
([24]) مجموع الفتاوى (24/ 327).
([27]) مجموع الفتاوى (24/ 326).
([28]) ينظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 59).
([33]) فتاوى ومسائل -مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (4/ 68-69).