الابتداعاتُ العقليّة في المسائل العَقَديّة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقَـــدّمَــــــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله.
أما بعد، بين الفينة والأخرى ترتفع الأصوات التي تنادي بأهمِّية اعتبار العقل ومنتجاته الفكرية، وعدم قبول شيءٍ حتى يُعرض على ميزانه، ويُتغافل عن أن الدين الإسلامي بدأت جذوره من العقل، وأن من ضروريَّات العقل التسليم لله ولرسوله، وأن إعمال العقل في عقليَّات الإسلام من فروض الكفايات.
وفي ظلِّ هذه الدعوات قد تَعرض للإنسان الولِه بالتطوير والرُّقي، فكرةُ التجديد والإبداع في الدلائل العقلية على مسائل الاعتقادات.
فهل يمكن أن يبتدع العقل البشريُّ دليلًا على مسألة من مسائل الاعتقادات؟
وما حكم هذا الابتداع ِشرعًا إن وُجد؟
دعنا إذن نتجوَّل قليلًا في غمار هذه المسائل، ونفصِّل في الإجابة عليها؛ لتكون هي موضوع هذه الورقة العلمية، التي تتضمن مبحثين اثنين:
- دين الإسلام هو المنهج الأكمل في الوجود ولا حاجة للابتداع فيه.
- أحوال الابتداع في الدلائل العقلية وأحكامها.
اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم([1])
دين الإسلام هو المنهج الأكمل في الوجود دلائل ومسائل
الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، دينٌ متكاملٌ في مبانيه ومعانيه، فهو يُعنى بالغيبيات والماورائيات كما يُعنى بالمحسوسات والعقليات، ويهتمُّ بالعواطف والرَّوحانيات كما ينظِّم الـمُتع الجسدية والماديات، وهو صالح لكل زمان ومكان، ويفي بمتطلبات كل إنسان أيًّا كان؛ فأي حركةٍ للإنسان وأي تعامل له ففي وحيِ الإٍسلام نظامُه وتفصيله، سواء كان التعامل مع إلهه أو مع أقرانه أو مع هذا الكون الفسيح ومخلوقاته.
فدستور الإسلام نصَّ على نظام حياة الإنسان في كل النواحي والمجالات، مبدأه، وجوده، غايته، نهايته، والوسائل الموصلة إلى تلك الغايات، كلُّ ذلك مدعَّمٌ بالحجج الواضحة، والأدلة الدامغة، والبراهين القوية.
وإن شئت فاقرأ السورة التي سمِّيت في القرآن باسم (الإنسان)، حيث بيَّن الله مبدأه ومعاده وجميع الأسئلة الوجودية الكبرى -التي أرهقت البشر على مر العصور وما زالت- في آيات معدودة وبلغة سهلة مختصرة، يقول الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 1 – 5].
ولما كان دين الإسلام بهذا التكامل في مسائله ودلائله ونظامه، فإن هذا يقتضي بطبيعة الحال التكامل في مصادره المعرفية وآلياته العلمية والعملية؛ ولذا تبوأ العقل وأدلته منزلةً رفيعةً في هذه المنظومة المتكاملة.
فمن المسلمات لدى سلف هذه الأمة أن رحلة الإنسان المعرفية بدأت مع العقل، ولم يكن ثمت مصدر للمعرفة سواه؛ ولما أنزل الله وحيه وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بما أخبر، صار هو المصدر الإلهي الذي إليه ترجع المعرفة كما أنه سبحانه هو الذي وهب الإنسان العقل ومنه ابتدأت المعرفة.
وليس معنى هذا الحكم بإعدام العقل البشري بعد ذلك، بل بقي للعقل أكبر دور في استيعاب هذا المصدر الإلهي، وقد اشتمل هو ذاته على جملةٍ كبيرة من أقوى الدلائل العقلية.
فلا منازعة في أن الدلائل العقلية لها حضورها، وقيمتها المعرفية في المنهج السلفي على عكس ما يظن بعض المبتدعة([2]).
وهذا ما تكثر الإشارة إليه في القرآن، فكثيرًا ما يشير إلى هذا الثراء الدلالي العقلي، فقد افتتح الله تعالى كتابه مصرِّحًا كونه هدى للعالمين، فقال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وكيف يكون كذلك إن لم يهد العقول وهو مفتاح هداية كل إنسان، وكثيرًا ما ينصُّ أنه أرسل رسله وأنزل شرعه وكتبه ليظهره على كل الأديان، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، وذلك الظهور إنما يحصل برضا نفوسهم بهذا الدين وقناعة عقولهم به، ونصَّ سبحانه أيضًا على أن في كتابه بيان كل شيء {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وإنما العبرة بالبيان والخبر الذي ظهرت براهين صدقه، يقول ابن تيمية رحمه الله: “والرسول صلوات الله عليه وسلامه قد أُرسل بالبينات والهدى؛ بيَّن الأحكام الخبرية والطلبية، وأدلتها الدالة عليها؛ بيَّن المسائل والوسائل؛ بيَّن الدين؛ ما يقال، وما يعمل؛ وبيَّن أصوله التي بها يعلم أنه دين حق. وهذا المعنى قد ذكره الله تعالى في غير موضع، وبيَّن أنّه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله؛ ذكر هذا في سورة التوبة، والفتح، والصف([3]).
والهدى: هو هدي الخلق إلى الحق، وتعريفهم ذلك، وإرشادهم إليه. وهذا لا يكون إلا بذكر الأدلة، والآيات الدالة على أنّ هذا هدى، وإلا فمجرّد خبر: لم يعلم أنه حق، ولم يقم دليل على أنّه حقّ: ليس بهدى”([4]).
وإرفاق الأنبياء بالبراهين والحجج اليقينية والموازين الحقة التي تُشيَّد بها الحضارات البشرية؛ سمةٌ بارزةٌ في المرسَلين، وهو ما أكَّد عليه القرآن، يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، فالوحي مليءٌ بالدلائل العقلية، وسبيل القرآن هو السبيل الأقوم سواء في الدلائل أو في المسائل كما يقول تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فما من شك أن دلائله أقوى وأكمل، بل إن القرآن يتحدَّى وبكل صراحة على أن أدلته وحججه أظهر وأكمل وأبلغ وأقوى من كل دليل مبتدعٍ من البشر، فيقول تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، فلا يستدل أحدٌ بدليل عقلي أو غيره إلا ودليل القرآن أحسن وأوضح وأبين من دليله في تلك المسألة([5]).
وكان من أثر هذا الثراء الدلالي العقلي في القرآن، أنه كثيرًا ما يطالب الخصوم بالحجج والبراهين على أقوالهم([6])، فقد تكرر قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} في أكثر من قضيَّة كما في سورة [البقرة: 111]، و[الأنبياء: 24]، و[النمل: 64]، و[القصص: 75]، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر، فإن القرآن ينقض دعاوى خصومه بأنها عديمة الحجة والبرهان، كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} [فاطر: 40]، ويبكتهم ويعجزهم بمطالبتهم بأي متمسَّكٍ إن كان عندهم ما يستمسكون به {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4].
فسبحان الذي أنزل كتابًا بلغ أوج الإشباع العاطفي والنفسي، وبلغ الغاية في الحجاج البرهاني العقلي، كتابًا “تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرافها”([7]).
وهذا الثراء والتكامل في بيان الدلائل والمسائل هو مقتضى إيجاب الله تعالى على نبيه البلاغ، حيث قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]؛ وكيف يبلِّغ النبي صلى الله عليه وسلم قولًا لم تكتمل دلائله؟ أم كيف يصحُّ الزعمُ بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتمل بلاغه؛ ليأتي من أتباعه المتأخرين من يخترع الدلائل للمسائل الإلهية المنزَّلة من عند الله تعالى؟
فإننا “لو كنا نحتاج مع ما كان منه صلى الله عليه وسلم في معرفة ما دعانا إليه إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال لما كان مبلغًا إذ كنا نحتاج في المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها”([8])، وفي هذا يقول الإمام الخطابي رحمه الله: “أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته، بعث رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
وقال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وفي مقامات شتى، وبحضرته عامة أصحابه: «ألا هل بلغت»([9]).
وكان الذي أنزل عليه من الوحي، وأمر بتبليغه، هو كمال الدين وتمامه، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئاً من أمور الدين: قواعده، وأصوله، وشرائعه، وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال.
ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدًا في كل وقت وزمان، ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعًا بما لا سبيل للناس إليه، وذلك فاسد غير جائز”([10]).
ومن آثار هذا الثراء الدلالي العقلي، أنه لا سبيل إلى رد القرآن ونقضه بالحجج والبراهين الحقة، وإنما السبيل إلى رده هو الجحود والمعاندة العوجاء أو التعطيل والمعارضة الجافة الحمقاء ليس إلا، يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ } [العنكبوت: 47 – 49].
إذن دين الإسلام متكاملٌ في جميع جوانبه، وكافٍ للإنسان في كل مطالبه، كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وإذا كان الدين الإسلامي قد فصَّل كل ما يحتاج الإنسان حتى في قضاء الحاجة([11])؛ فهل يُعقل أن يترك بيان دلائل أصول المسائل؛ ليأتي من يبتدع تلك الدلائل بعد انقضاء القرون الفاضلة والقدوات الصالحة في الأمة؟!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “فإن المسائل التي هي من أصول الدين -التي تستحق أن تسمى أصول الدين- أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه؛ لا يجوز أن يقال: لم ينقل عن النبي فيها كلام؛ بل هذا كلام متناقض في نفسه؛ إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين، وأنها مما يحتاج إليه الدين، ثم نفي نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين: إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج الدين إليها فلم يبينها، أو أنه بينها فلم تنقلها الأمة، وكلا هذين باطل قطعًا. وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين”([12]).
إذن القول بعدم اشتمال الدين على الدلائل العقلية أو قصوره في هذا الباب باطل ولا شك، ولكن هل يمكن للمرء أن يبتدع دليلًا عقليًّا صحيحًا على مسألة شرعية؟
أحوال الابتداع في الدلائل العقلية وأحكامها.
يحسن بنا قبل بيان الحكم في هذه المسألة أن نفصلها تفصيلًا ينجلي به محل النزاع، فإن الإحداث في الجانب العقلي له أحوال يختلف بعضها عن حكم بعض، ولنبدأ بالتفصيل([13]):
الحالة الأولى:
إحداث عقيدة أو فكرة أو رؤية دينية جديدة بالعقل، وهذا بحد ذاته هو الابتداع المذموم في الشرع؛ إذ المقصود بالابتداع كلُّ ما أحدث في الشرع من غير دليل شرعيٍّ معتبر، وفي تحريمه والنهي عنه وردت نصوص كثيرة؛ كقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63]، وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»([14])، وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»([15]).
وقد صرَّح العلماء بالحكم على هذه المسألة التي أوردناها؛ كقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث السابق: “هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه”([16]).
وبمثل هذه الحجج أيضًا استنكر أئمة السَّلف على من ابتدع معتقدًا من العقل دون نظرٍ إلى الشرع، والمواقف في ذلك كثيرة، ولعلنا نمثِّل هنا بقصة أبي عبد الرحمن الأَذَرْمي التي استخدم فيها هذه الحجة، ومفادها:
أن الشيخ أبا عبد الرحمن الأَذَرْمي أُدخل على الخليفة الواثق ليمتحنه بالقول بخلق القرآن، ويُناظر أحمد ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ الأَذَرْمي: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بما قلت؟
قال: نعم.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله إلى عباده، هل ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أمره الله به في أمر دينهم؟
فقال: لا.
فقال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه؟
فسكت ابن أبى دؤاد.
فقال الشيخ: تكلم.
فسكت.
فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال: يا أمير المؤمنين واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله عز وجل حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، كان الله تعالى الصادق في إكماله دينه، أو أنت الصادق في نقصانه، حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟
فسكت بن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: أجب يا أحمد.
فلم يجب.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
فقال الواثق: نعم اثنتان.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟
قال ابن أبي دؤاد: علمها.
قال: فدعا الناس إليها؟
فسكت.
قال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث.
فقال الواثق: ثلاث.
فقال الشيخ: يا أحمد فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن علمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟
قال: نعم.
قال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعليّ، رضي الله عنهم؟
قال بن أبي دؤاد: نعم.
فأعرض الشيخ عنه، وأقبل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدَّمت القول: إن أحمد يصبو ويضعف عن المناظرة.
يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة، ما زعم هذا أنه اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم، أو قال فلا وسع الله عليك.
فقال الواثق: نعم، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة، ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلى، فلا وسع الله علينا، ورجع الواثق عن القول بخلق القرآن وبُكت المبتدع([17]).
الحالة الثانية:
إحداث استدلال بدعي متهالك البنيان باطل من داخله، أو يتضمن في بنيانه أمورًا باطلة؛ كأن تكون أحد مقدّماته فاسدة.
ومن هذا النوع الأدلة التي ابتدعها المتكلمون وعَظُم بها الشر؛ كدليل الحدوث الشهير، ودليل التركيب، ونفي التجسيم، ونحوها.
ولذا نجد أئمة السلف استنكروا على المتكلمين ابتداعهم مثل هذه الأدلة التي استمدوها من أقوال الفلاسفة ومن على شاكلتهم، متخذين تلك الأقوال أصولًا ينزلون عليها قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فاندفعوا إلى أمر لم يدع إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، فهي بعيدة كل البعد عن الشرع.
هذا بالإضافة إلى أن تلك الأدلة التي سمّوها عقلية لا تصحُّ في العقل ولا تتوافق مع الفطرة والواقع.
ويحكي لنا ابن تيمية هذا عن السلف حيث يقول وهو يتحدث عن دليل الحدوث الكلامي: “وهذه الطريقة هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له؛ ولأجلها قالوا بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، وأنكروا الصفات.
والذَّامون لها نوعان: منهم من يذمها؛ لأنها بدعة في الإسلام، فإنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَدْعُ الناس بها ولا الصحابة؛ لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه، وهذه طريقة الأشعري في ذمه لها والخطابي والغزالي وغيرهم ممن لا يفصح ببطلانها.
ومنهم من ذمَّها لأنها مشتملة على مقامات باطلة لا تحصل المقصود، بل تناقضه وهذا قول أئمة الحديث وجمهور السلف”([18]).
ومن الاستدلالات البدعية الكلامية كذلك: اعتمادهم في تنزيه الله تعالى على نفي التجسيم، يقول ابن تيمية: “فالاعتماد في تنزيه الباري على نفي الجسم، طريقة مبتدعة في الشرع متناقضة في العقل فلا تصح لا شرعًا ولا عقلًا.
أما الشرع فإنه لم يرد بذلك كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف والأئمة…، وأما التناقض في العقل فإنه ما من أحد يثبت شيئًا وينفي شيئًا لكونه مستلزمًا للتجسيم إلا أمكن النافي أن يقول له فيما أثبته نظير ما قاله له فيما نفاه”([19]).
وقد صرَّح علماء السلف رحمهم الله بالآثار والنتائج المخزية التي نجَمَت عن إحداث مثل هذه الاستدلالات البدعية، فإن “الاستدلال بهذه الطريقة أَوجَبَت نفي صفات الله القائمة به، ونفي أفعاله القائمة به، وأوجبت من بدع الجهمية ما هو معروف عند سلف الأمة، وسلطت بذلك الدهرية على القدح فيما جاءت به الرسل عن الله، فلا قامت بتقرير الدين، ولا قمعت أعداءه الملحدين”([20])، يقول ابن أبي العز رحمه الله: “ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين، فضلًا عن علمائهم.
ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل، كثر المراء والجدال، وانتشر القيل والقال، وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال”([21]).
الحالة الثالثة:
إحداث صياغة جديدة للدليل الشرعي العقلي خالية من المعاني الباطلة، وذلك كأن يصوغ الإنسان دليل النشأة الأولى على القدرة على البعث بمصطلحات عصرية ومعانٍ مستخدمةٍ في زمننا، فهذا يُتجوَّز فيه ما دام لا يحمل في طيَّاته معانٍ باطلة خصوصًا عند وجود غرضٍ صحيح من ذلك؛ كإفهام من لا يستوعب المستويات العالية من اللغة بتسهيلها وشرحها له في لغة سهلة واضحة قريبة من ذهنه ومصطلحات متواردة على عقله؛ فإن “مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم ليس بمكروه – إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة – كمخاطبة العجم: من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يُحتَجْ إليه، ولهذا قال النبي لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص – وكانت صغيرة ولدت بأرض الحبشة؛ لأن أباها كان من المهاجرين إليها- فقال لها: «يا أم خالد، هذا سنا»([22])، والسنا بلسان الحبشة الحسن؛ لأنها كانت من أهل هذه اللغة. وكذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة، وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم”([23]).
ولكن يجب التيقُّظ والتنبُّه إلى بعض المزالق الخطيرة التي وقع فيها بعض من تمادى في استحداث مثل هذه الاستدلالات.
ومن تلك المزالق: الإعراض عن نصوص الكتاب والسنة والإقبال على نصوص البشر أيًّا كانوا، فإن الكتاب والسنة بنصوصهما ومعانيهما يجب أن يُجعلا الأصل وإليهما المرجع، إذ فيهما الحجية كما أنهما أبعد عن الغلط والخلط وأقرب إلى الدقة والضبط، والتجوُّز في استحداث الصياغات هي مرحلة أدنى من مرحلة مباشرة النصوص الشرعية بالدراسة والفهم، فمن استطاع أن يتناول النصوص مباشرةً لا ينبغي له الالتفات إلى غيرها.
وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: “فالمقصود أن معرفة ما جاء به الرسول وما أراده بألفاظ القرآن والحديث هو أصل العلم والإيمان والسعادة والنجاة ثم معرفة ما قال الناس في هذا الباب لينظر المعاني الموافقة للرسول والمعاني المخالفة لها.
والألفاظ نوعان: نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله. فيُعرف معنى الأول ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويُعرف ما يعنيه الناس بالثاني ويرد إلى الأول، هذا طريق أهل الهدى والسنة.
وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس، يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعًا لهم، فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم، ويقولون: نحن نفسر القرآن بالعقل واللغة، يعنون: أنهم يعتقدون معنى بعقلهم ورأيهم ثم يتأوَّلون القرآن عليه بما يمكنهم من التأويلات والتفسيرات المتضمنة لتحريف الكلم عن مواضعه، ولهذا قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس”([24]).
ومن تلك المزالق التي يجب التنبُّه لها: أن الألفاظ قد تتضمَّن معانٍ باطلة سواء قصد الباحث تلك المعاني أو لم يقصد، فإن هذا يسبب ضلالًا وانحرافًا عظيمًا عن الصراط المستقيم، وهو ذاته ما فعله المتكلمون حين صاغوا أدلتهم الكلامية واستمدُّوا معانيها من الفلسفة اليونانية، وحاولوا تنميقها بالألفاظ الشرعية!! مما أدى إلى الافتتان في الدين، وفساد التصورات العقلية واللسانية، والإفساد في الأرض، والاشتغال بما ينفع أعداء الإسلام([25]).
ولذا كرهه السلف رحمهم الله، فإن “السلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولَّدة كلفظ “الجوهر” و “العرض” و “الجسم” وغير ذلك؛ بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه؛ لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفي والإثبات، كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع، فقال: (هم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يتكلمون به من المتشابه).
فإذا عُرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات ووُزنت بالكتاب والسنة: بحيث يُثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة ويُنفى الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق؛ بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ: نفيا وإثباتا: في الوسائل والمسائل؛ من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو الصراط المستقيم”([26]).
وقد قصَّ علينا الإمام ابن القيم تاريخ الإغواء بالمصطلحات مذ الزمن الأول، وكيف كان التدرج شيئًا فشيئًا في هذا السبيل حتى عزلوا الكتاب والسنة عن الحجية ونصَّبوا أقوال الرجال مكانهما، يقول ابن القيم رحمه الله: “ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمونٌ له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعيَّن ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرّون ذلك غاية التحرّي، حتى خَلَفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظًا غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفِي بما تفِي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان، فتولَّد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا اللَّه، فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك وهلم جرّا.
ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض.
وقد كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال اللَّه كذا، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كذا، وفعل كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلًا قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاءً لما في الصدور، فلما طال العهد وبَعُد الناس من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال اللَّه، وقال رسول اللَّه، أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول اللَّه وقول رسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام اللَّه ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يُذكر فيها نص عن اللَّه تعالى، ولا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلّدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنِّف، وأجلّهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ ذلك الكتاب”([27]).
الحالة الرابعة:
إحداث استدلال عقلي تفصيلي يدخل تحت دليل شرعي عقليٍّ عام، كالتفصيل في أدلة وجود الله تعالى مثل: دليل الإبداع والاختراع ودليل الإتقان والإحكام ودليل العناية([28])، فمثلًا: الاستدلال بدقة أجزاء العين البشرية ووظائفها الدالة على إتقان صنعها ووجود صانعها العليم الخبير هو تفصيلٌ لدليل الإتقان والإحكام الوارد في الشرع، وليس هو دليلًا مستقلًّا بذاته.
ومثل ذلك الاستدلال بوجود غريزة الأمومة في الكائنات الحية على وجود من غَرَز فيها تلك الغرائز، هو تفصيل لدليل الإبداع والاختراع الوارد في الشرع، وليس دليلًا مبتدعًا مستقلًّا بذاته، وهكذا.
فهذا النوع من الإحداث لا بأس به، بل قد يُحتاج إليه إذا وُجد من الناس من لا تُقنعه إلا مثل هذه التفاصيل والدقائق، ولكن هذا وإن كان مما يزيد العلم والمعرفة بالله تعالى إلا أنه لا يعني تفضيل من يخوض في هذه الأمور التفصيلية على غيره ممن لا يدرك إلا المجملات كما يدَّعي بعض الفلاسفة([29])، ففرقٌ بين مطلق المعرفة بالصانع وبين الإيمان الشرعي الذي يُمدح صاحبه في دين الإسلام، فإن كثيرًا ممن يعرف الصانع وممن برع في هذه العلوم وأثبت وجود إله لا يستحقُّ وصف الإيمان، وليس هو بممدوحٍ في الشرع لمجرَّد ذلك، على خلاف ما شاع من إطلاق مصطلح الإيمان لكلِّ مَن أثبت وجود إلهٍ([30]).
ومن مسالك استخدام هذا النوع من الدلائل في عصرنا الاستفادة من التوسّع المحمود في أنواع العلوم؛ كالفيزياء والكيمياء والأحياء وعلم الأرض والفلك وغيرها، والاستدلال بها على الأصول الشرعية.
الحالة الخامسة:
إحداث استدلال بدليل شرعي على مسألة، لم يستدل عليها أحد من العلماء، وذلك كأن يقف المرء على معنى عقلي في دليل شرعيٍّ صحيح يدل على وجود الله تعالى، لا يَعلم أحدًا من أهل العلم قد استدل به، فهذا الأصل فيه الجواز، بل هذا هو مضمار العلماء للتدبر والتأمل والاستنباط والتفكر، وبه يتميزون عن العامة.
وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: “إنّ الدليل الدالّ على المدلول عليه، ليس من شرط دلالته استدلال أحدٍ به، بل ما كان النظر الصحيح فيه موصلاً إلى علمٍ فهو دليل، وإن لم يستدلّ به أحدٌ؛ فالآيات أدلةٌ وبراهين تدلّ سواء استدلّ به النبي، أو لم يستدلّ. وما لا يدلّ إذا لم يُستدلّ به لا يدلّ إذا استدلّ به، ولا ينقلب ما ليس بدليلٍ دليلًا إذا استدلّ به مدّعٍ لدلالته”([31]).
ولكن ينبغي على المرء أن يحذر من التقوُّل على الله بلا علم، أو تحميل النصوص ما ليس فيها، أو ليِّ أعناقها لتتوافق مع المسألة المستدَلّ عليها، والتزام قواعد الاستدلال وضوابطه المعروفة عند أهل السنة والجماعة([32]).
الحالة السادسة:
إحداث استدلال عقلي صحيح على مسألة عقدية لم يستدل عليها الشرع دلالة عقلية، فهل مثل هذا الإحداث ممكن حقًّا؟ وهل هو موجود في الواقع بحيث يحتاج إلى دراسته وتفصيله؟
أما عن إمكان وقوعه، فقد ألمح ابن تيمية رحمه الله إلى إمكانية ذلك حيث قال: “إنّ الدليل الدالّ على المدلول عليه، ليس من شرط دلالته استدلال أحدٍ به، بل ما كان النظر الصحيح فيه موصلاً إلى علمٍ، فهو دليل، وإن لم يستدلّ به أحدٌ؛ فالآيات أدلةٌ وبراهين تدلّ سواءٌ استدلّ به النبي، أو لم يستدلّ. وما لا يدلّ إذا لم يُستدلّ به لا يدلّ إذا استدلّ به، ولا ينقلب ما ليس بدليلٍ دليلًا إذا استدلّ به مدّعٍ لدلالته”([33]).
بل إن ابن تيمية صرَّح بإمكان ذلك وأنه لا يستلزم نسبة النقص إلى الدين، وذلك حين فصل الدلائل الشرعية حيث قال: “فإن ما عُلم بالشرع لا يخلو: إما أن يُراد به إخبار الشارع أو دلالة الشارع … والقسم الثاني من الشرعي: ما يُعلم بإخبار الشارع. فهذا لا يخلو: إما أن يمكن علمه بالعقل أيضًا؛ أو لا يمكن؛ فإن لم يمكن فلهذا يُعلم بمجرد إخبار الشارع، وإن أمكن علمه بالعقل فهل يوجد مثل هذا؟ وهو أن يكون أمر أخبر الشارع به وعلمه ممكن بالعقل أيضًا ولم يدل الشارع على دليل له عقلي؛ فهذا ممكن ولا نقص إذا وقع مثل هذا في الشريعة”([34]).
بيد أن عموميات الشريعة التي مرَّت معنا في أول الورقة والتي تدل على كمال الدين وتمامه، ينفي وجود مثل هذا الأمر؛ كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]،{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]، وهو ما صرَّح به كثير من العلماء؛ كقول الخطابي الذي سلف نقله([35]).
وقول أبي الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر: “لو كنا نحتاج مع ما كان منه صلى الله عليه وسلم في معرفة ما دعانا إليه إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال لما كان مبلغًا إذ كنا نحتاج في المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها”([36]).
وقول ابن الوزير معلِّقًا على قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24]، حيث قال: “هذه الآية دالة على أن كتب الله لا تخلو من البراهين المحتاج إليها في أمر الدين”([37]).
وهذا ما اختاره صاحب كتاب (الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد) حيث يقول: “ما من مسألة عقدية أثبتها الشرع، يمكن الاحتجاج لها إلا وقد جاء دليلها العقلي في النقل، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله، وأن بيان الرسول للاعتقاد غير مقتصر على بيان مسائله، بل هو شامل لتقرير دلائله على أتم وجه.
فتكميل الله تعالى لدينه شامل للمسائل والدلائل، كما أن تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم للرسالة شامل للمسائل والدلائل.
وعلى هذا فالابتداع في باب الدلائل كالابتداع في باب المسائل، سواء بسواء؛ إذ متعقل الابتداع، الذي هو اتهام الديانة بالنقص، موجودٌ في هذا الباب.
وإذا كان الإحداث في كمالات الديانة مذمومًا منهيًّا عنه لهذا الاعتبار، فكيف به في أصولها؟!”([38]).
وحتى من قال بإمكانية وجوده، فإنهم لم يأتوا بمثالٍ صحيحٍ على وقوعه، وأما المتكلمون الذين تمسَّكوا بالقول بوقوعه، فلا يخفى أن غالب الاستدلالات التي استدلوا بها هي من جنس الاستدلالات البدعية الباطلة، كما أن الصحيح منها وارد في النقل، وهو ما ذكره من سبر أدلتهم تلك، يقول ابن تيمية رحمه الله: “وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسنة، مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه، فكان فيما جاء به الرسول من الأدلة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين”([39]).
ويقول ابن أبي العز الحنفي: “وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية، وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} [الفرقان: 33]”([40]).
ويقول السيوطي: “قال العلماء: قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير يبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به، لكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين”([41]).
ولقائلٍ هنا أن يقول: الموجود لا بد وأن يكون في جهة، وإذا نظرنا نظرًا عقليًّا على طريقة السبر والتقسيم إلى الجهات الست، وجدنا أن أكملها هي جهة العلو، والله سبحانه له الكمال المطلق، إذن الله متَّصفٌ بالعلو، وهذه الصفة وردت في الدليل الشرعي الخبري، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، ولكن لم يرد عليه دليل شرعي عقلي، فما الجواب؟
الجواب: أن من المسائل العقدية ما لا يوجد عليه دليلٌ عقليٌ خاص، بيد أنه داخل ضمن عموم دليل عقليٍّ شرعي، فكثيرٌ من المسائل أدلتها موجودة في الشرع لكنها عامَّة، يدخل تحتها جملة من المدلولات، ومن ذلك مثلًا؛ وجوب وصف الله بالكمال المطلق وتنزيهه عن كل نقص أو عيب، هذا دليل عام دلت عليه الأدلة الشرعية الكثيرة، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، وقوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3] “فإن قوله تعالى: {الْأَكْرَمُ} يقتضي أنه أفضل من غيره في الكرم والكرم اسم جامع لجميع المحاسن. فيقتضي أنه أحق بجميع المحامد، والمحامد هي صفات الكمال فيقتضي أنه أحق بالإحسان إلى الخلق والرحمة، وأحق بالحكمة، وأحق بالقدرة والعلم والحياة، وغير ذلك”([42])، فيدخل تحت هذا الدليل جميع أنواع الدلالات العقلية على أنواع الكمال؛ ومن ذلك صفة العلو، فإنها صفة كمال كما ذكر المستدل في مقدماته، وهو قد دلت عليه العموميات الشرعية فيكون داخلًا في تفصيل دليل شرعي عام وليس إحداث دليل عقلي مستقل.
ولا ننسى أن إحداث الدلائل العقلية على المسائل الشرعية هو الطريق الذي فتح منه الكلاميون للأعداء بابًا للطعن في الإسلام، وثلموا منه في جسد الإسلام ثلمة، وفتحوا على أهله باب شر عظيم؛ إذ بدؤوا بالقول بإمكانية ذلك ثم راحوا يشققون القول تشقيقًا، ويبالغون في استخراج تلك الدلائل، ما جعلهم يلوون النصوص الشرعية لتتوافق مع الدلائل التي ابتدعوها، وأُشغلوا بذلك عن الدلائل الشرعية وأعرضوا عنها وهوَّنوا من أمرها، تارةً بدعوى أنها لا تملك الحجة العقلية في نفسها، وتارة بأنها خطابية تنفع للجمهور دون العامة([43])، ثم آل بهم الحال في آخر المطاف إلى أن عارضوا عقلياتهم بعقليات الشرع، بل إلى أن أنكروا وجود عقلياتٍ في الشرع، وأن العقليات محصورة فيما اخترعوه وجاؤوا به، أو اخترعه أساتذتهم اليونانيون؛ كالذي علَّق به القاضي عبد الجبار المعتزلي على قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فقال القاضي عبد الجبار: “المراد أنه أكمل الشرائع، لا الأمور العقلية”([44])!!، ويقول في موضع آخر تحت عنوان (بيان ما يجوز أن يدل عليه الخطاب وسائر الأدلة السمعية): “ليس يصح الاحتجاج بذلك في إثبات التوحيد والعدل، وإنما نورده لنبين خروج المخالفين عن التمسك بالقرآن”([45]).
الخاتمة
في نهاية هذه الرحلة المفصَّلة للإحداث في الاستدلال العقلي؛ تبيَّن لنا أن الابتداع في الدلائل الشرعية كالابتداع في المسائل الشرعية، فدين الله كاملٌ لا يحتاج إلى من يضيف إليه شيئًا، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم سواء في الدلائل أو في المسائل، ولكن قد يُقصد بابتداع الدلائل الشرعية أمور جائزة كتفصيل دليلٍ شرعيٍّ عام، أو إحداث صياغة لدليل شرعي سابق على التفصيل السابق الذكر.
([2]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (1/134وما بعدها).
([3]) يقصد بها الآية التي أوردناه سابقًا وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وقد وردت في القرآن بنفس اللفظ في ثلاثة مواضع كما ذكر وهي [التوبة: 33]، [الفتح: 28]، [الصف: 9].
([4]) النبوات لابن تيمية (2/ 650).
([5]) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/106).
([6]) ينظر: إيثار الحق على الخلق لابن الوزير (ص104).
([7]) النبأ العظيم د. محمد عبد الله دراز (ص: 143).
([8]) رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري (ص: 114).
([9]) متفق عليه، صحيح البخاري (105)، صحيح مسلم (1679).
([10]) النصُّ الذي أوردناه نقله عنه ابن تيمية في درء التعارض (7/296)، والسيوطي في صون المنطق (95). وهو في النسخة المطبوعة منه المجموعة من المصادر (ص12) (دار المنهاج القاهرة – الطبعة الاولى 1425هـ)، والكتاب في عداد المفقودات حتى الآن.
([12]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 294).
([13]) ينظر: ورقة علمية بعنوان: صناعة الاستدلال العقدي لعبد الله العجيري ضمن كتاب صناعة التفكير العقدي (ص 186).
([14]) متفق عليه صحيح البخاري (٢٦٩٧)، وصحيح مسلم (١٧١٨).
([16]) فتح الباري (5/302-303).
([17]) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (11/ 271)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (11/ 315).
([18]) الصفدية لابن تيمية (1/ 274).
([19]) الصفدية لابن تيمية (2/ 33).
([20]) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/ 304) بتصرف يسير.
([21]) شرح الطحاوية لابن أبي العز (ص: 76).
([23]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 306).
([24]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/ 355).
([25]) ينظر: ضوابط استعمال المصطلحات العقدية والفكرية عند أهل السنة والجماعة. د. سعود العتيبي (ص125).
([26]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 307).
([27]) إعلام الموقعين لابن القيم (6/ 64).
([28]) وللاستزادة في أدلة وجود الله ينظر سلسلة المقالات الصادرة عن مركز سلف للبحوث والدراسات في ذلك؛ كدليل الإبداع والاختراع https://salafcenter.org/1739/، ودليل الإتقان والإحكام http://salafcenter.org/943/، والمقدمات الأولية http://salafcenter.org/522/ ، والغرائز http://salafcenter.org/639/ ، والنزعة الأخلاقية http://salafcenter.org/548/ ، والإرادة الغائية http://salafcenter.org/647/ ، والإرادة الحرة http://salafcenter.org/683/ .
([29]) ينظر: مناهج الأدلة لابن رشد (ص63).
([30]) ينظر: الأدلة العقلية النقلية. د. سعود العريفي (ص 231).
([31]) النبوات لابن تيمية (1/ 500).
([32]) وللشيخ عبد الله العجيري ورقة علمية جديرة بالعناية في هذا الموضوع بعنوان (صناعة الاستدلال العقدي)، ضمن كتاب (صناعة التفكير العقدي) الصادر عن مركز تكوين للدراسات والأبحاث.
([33]) النبوات لابن تيمية (1/ 500).
([34]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 229).
([36]) رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري (ص: 114).
([37]) إيثار الحق على الخلق لابن الوزير (ص11).
([38]) الأدلة العقلية النقلية. د. سعود العريفي (ص 12).
([39]) منهاج السنة النبوية (2/ 110).
([40]) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 76).
([41]) الإتقان في علوم القرآن (2/ 356).
([42]) مجموع الفتاوى (16/ 360).
([43]) كفعل أبي حامد الغزالي الذي خصَّص كتاب (إلجام العوام عن علم الكلام) تبعًا لهذه الفكرة.